لعلّ الكتابة عن سركون بولص (1944 – 2007)، الذي تحل ذكرى رحيله الثامنة اليوم، هي بمثابة تذكير بالشّعر نفسه.
حين يعود القارئ إلى تجارب شعرية فارقة في الشعر العربي الحديث، لا بدّ أن يكون صاحب "حامل الفانوس في ليل الذئاب" واحداً من أصحابها، ولعل عبارته "سار مبتعداً، واختفى/ في كلّ مكان"، تلخّص تجربته الشخصية والشعرية.
الشاعر قليل الظهور، كان شغوفاً بالسّفر (الاختفاء في كلّ مكان) والشعر، والأوّل وجهٌ من وجوه الثاني: "سافِرْ/ حتّى يتصاعد الدّخان من البوصلة". إنّها ليست دعوةً إلى السفر وحسب، بل إلى التّيه أيضاً.
أكثر ما يبرز في سيرة بولص، هو كثرة ترحاله؛ خرج من بلدته الحبانية طفلاً إلى كركوك التي صار أحد أبرز شعراء جماعتها، ثمّ غادر إلى بيروت حيثُ استقبله واحتفى به يوسف الخال ومؤسّسو "مجلّة شعر"، التي كان أدونيس واحداً منهم، وقال مرّةً: "ينظر سركون بولص إلى الكتابة الشعريّة ويمارسها بوصفها هيَ هيَ، لا بوصفها وزناً أو نثراً. الكتابة عنده وجودٌ آخر داخلَ الوجود".
بعد بيروت، كانت سنوات طويلة نسبياً في سان فرانسيكو الأميركية، ثمّ تجوال في عدّة بلدان أوروبية، مثل بريطانيا، وألمانيا التي كانت محطّته الأخيرة. كان السّفر في تجربة بولص ممارسةً فيزيائيةً للشعر، وكأنّه قصيدة معيشة. لم يكن فقط مجرّد تنقّل بين المنافي، وإنّما نصّ موازٍ للنّص المكتوب.
وهذا ما يُمكن أن نقرأه أيضاً في عناوين بعض مجموعاته، مثل "الوصول إلى مدينة أين" أو "إذا كنت نائماً في مركب نوح"، وحتى "حامل الفانوس في ليل الذئاب". يقول: "إذا كان المجهول يُشرق/ كالوجه بين يديك/ كلّ صباح، كلّ ليلة/ من أنت/ إلى أين تمضي/ لامتلاك ماذا/ كيف تحيا/ ومن أجل من تموت/ إذا كنت أنت/ صاحب الملكوت"..
وربّما هكذا كان ينتقي بولص ترجماته. فحين نقف عند "عواء" لـ ألن غينسبرغ، نواجه تيهاً آخر خطّه الشاعر الأميركي، ونقله بولص إلى العربيّة؛ نواجه تيه الحضارة عند حواف جنون.
ولعلّ صاحب "الأوّل والتالي" عاش تيهاً مشابهاً يتعلّق بالعراق: "تُخفي ضياءك عنّي/ وراء ستائر لا تُحصى أيّها الماضي/ لكنّني أعرف أين دفنتَ اللؤلؤة وكيف بنيتَ من حولها/ المدينة". وشهدَ "الحضارة" الأميركية وما "قدّمته" لبلاده من ضياع.
كأن الشاعر العراقي لم يتبع سوى صوت واحد، هو صوت الشعر: "يظهر ملاكٌ، إذا تبعتَه خسرت كل شيء، إلا إذا تبعته حتى النهاية".
اقرأ أيضاً: سركون في ذكرى رحيله السابعة: تذكّر المستقبل