Beit بَيْت
أحلمُ ببيتٍ حيث الأرواح مُسالمةٌ
حيث تَجسُّدُها شبيهُ رنينٍ في السّواد،
بيِّنَةٌ وبلا تجَلٍّ،
حيث سأدعو كلَّ من أعرف
وأولئك الذين لم ألتقِ بهم من قبلُ -
فهل سيُلبّون؟
سأطلب منهم أن يتناولوا غصناً
من شجرة ويتحلّقوا حول الطاولة –
ثمة في كلّ وُريقةٍ نقشٌ عتيق
من الكنعانيين أو الإغريق –
غريبةٌ الأضواءُ التي تُصرُّ
على حفظ تماسُكِ الجدران كلاً واحداً
لكنها تحفظها – ألستُ على حقّ؟
فهل سيأتون؟
هل سيتنقّلون صامتين
في أرجاء غرفة واحدة
ويقصّون عليَّ الحكايةَ الوحيدة التي أودُّ سماعَها -
حكاية عن بيت في بلدٍ معافى
بكهفٍ يمنحُ الأملَ
كلَّ تجلياتِ الكون؟
***
قلب والدي المشطورُ
الصمتُ في كوب القهوةِ
صمتُه
وليس يحرّضُ سواه
(لكي نفهم
قدَرَه
فإنه يشرب قهوته مُرَّةً).
***
حيوات المطر
يقول لي الصينيُّ العجوز
في متجر الأغذية الصحية
على تقاطع الشارع 98 مع برودواي
إن للمطرِ حيواتٍ عديدةً.
أتساءلُ إن كان يقول للجميع
الكلامَ ذاته أم أنه شيء
قيلَ ما بيننا وحسب، أتساءلُ إن خاض حرباً،
قتلَ أحداً، أتساءل إن وقعَ في الحب من قبل،
فقَدَ بيته، فقَدَ لهجته، فقَدَ زوجةً
أو طفلاً في المطر، أتساءل إن كان يلتمس
المطرَ حين يحرّكُ حساءه اليوميّ،
أتساءلُ عمّا يخفيه داخل ردائه الحريري -
أيخفي أرزاً، صوراً، أو لعلها ذكريات المطر.
المطر الذي يحدثني عنه، يحملُ شائعاتِ الموتى،
أولئك الذين يعتلون حقائب السفر والأوبئة.
يحمل المطرُ ذكرى الجفاف تلوَ الجفاف،
البيوت التي زالت، المطر كالعشاق
يأتي ويغيبُ، كالجنود يغادرون
وأحياناً يعودون إلى حياة
لم تعد قائمة.
ينتظر الرجل الصيني مني أن أسأل-
مَن تراه يعلمُ حقاً كم من الحيواتِ ستأتي.
***
قال مأمون بعد مغادرته سورية
حملتُ معي سبع مزهرياتٍ
إلى سبعِ قرى
عبْر بحارٍ سبعةٍ
لكي أقبّلَ امرأةً بعينِها
يمسحُ اللاجئون
أعينهم المتعَبةَ
على سطح المرآة
يتلون بلدهم على أسماعي.
***
الحُجرة
أشيلُ صوتَه بيديّ
وأُطبق راحتي
كي أتركَ للصوت أن يغيب
ولكن حين أفتحها مرة أخرى
لا أجدُ أنه قد تجعّد،
وزفيره يُبطلُ زفيري
كلما حاولتُ أن أنأى بنفسي،
لكنه بحركة هادئة يجعلني أستدير
بذلك يطول أمد التعذيب
ويعود بي
إلى بقعة ظليلة تحت الشمس.
أحاول أن أتخيله وهو يقول لي:
سامحيني،
قد متُّ من جديد سعياً وراءك.
***
حلب
لاشي يهم
سوى أن السهمَ
يكادُ يُصوَّبُ
إلى طائرٍ
في الظلام.
***
كلّ يوم
لديّ وطنٌ
إنه لا مرئي
لا علَمَ له
أو ضوء قمر
لا نهر
أو جبل
لا غيم
يدرك كُنْهَ السماء
ولا نيران
تفكك الرغبة
لكن ثمةَ في حزن خريطته
الجواب الذي نريد.
***
لاجئون
نتلقّى الأذيةَ على مرأى من الجميع
كالأشباحٍ
في الضواحي
المهدّمة
ولكن في كلِّ
جسدٍ قضى
هناك أكورديون
وفي مكان ما
بينما نحصي
كم غرقْنا
تكتشفنا الحياة.
***
غرباء في داخلي
"لدينا جميعاً أسبابنا التي تدعونا إلى التنقّل/ فأنا أتنقّل لكي أُبقيَ الأشياءَ مكتملة". مارك ستراند، إبقاء الأشياء مكتملة
في الخارج، ثمة ارتعاشات الشتاء،
اخضلال فجائيّ، وعتمة بطيئة.
في الخارج، ثمة غرباء يبحثون عن أنفسهم
في الحركة الوئيدة لكتابتي اليدوية.
أقف على نواصي الليل
وبي أملٌ أن يبقى البنفسجُ بنفسجيَّ اللون في الشتاء.
ثمة بلاد على لساني،
عالمٌ صغير في تضاعيفِ نبضي،
غرباء في داخلي يفهمون
غرابةَ الأشياء الغريبة،
يفهمون بأنهم ليسوا غرباءَ
ما بينهم لكنْ يلوحُ غريباً للآخرين
أنهم منتمون إلى بعضهم، وكأننا
قادرون على أن تُنكرَ أنفسُنا أنفسَنا.
تنثال الكلماتُ من حنجرتي
كأنهار مخمل، وفي الخارج
صدى واهن يناديني
في ترحالي وتنقّلي
من قارّةٍ إلى أخرى،
أتنقّلُ، لكي أبقى مكتملة.
***
خارطة الوطن
هل من عشيقة جديدة في فراشك الليلةَ
أتساءلُ
أين ستكون شفتاك الليلةَ
أتساءلُ
أين خجلك الليلةَ
وتوليبك الأبيض وبندقيتك
وأغصان زيتونك
أين المساء
والسؤال
الذي تجرأت مرةً وسألته
تحت المطر
عمَّن يكون والدي
أين تتمركز الليلةَ
هل يخفق قلبك ولماذا
مَن أنت الليلةَ
هل من عشيقة في فراشك
أتساءلُ
على حين غرة تهبط يده على فمي
هذا ما يحصل في النزاعات
***
الاعتراف عند منتصف المسافة
لقلبي مناظير
لعينيَّ شوارع لا مرئية
صورتي المرسومة لأمّةٍ
مساحتها مائة قدمٍ مربعة من الغيوم -
ربما كان اللهُ بلاداً
لا تستطيع عيناي أن تراها.
* ترجمة من الإنكليزية وتقديم: أحمد م. أحمد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ابنة بيت لحم
شاعرة وناقدة ومؤلِّفة مسرحية فلسطينية من بيت لحم، تكتب باللغة الإنجليزية. نشأت بين أميركا الجنوبية حيث وُلدت وفرنسا والعالم العربي، ودرست في الولايات المتحدة وبريطانيا. تعمل اليوم أستاذة للأدب في جامعة كولومبيا، وتكتب زاوية أدب الرحلات في مجلة "عالم بلا حدود" تحت عنوان "المدينة والكاتب"، التي تستضيف فيها كتّاباً من جميع أنحاء العالم للحديث عن علاقتهم بمدنهم.
تشغل القضية الفلسطينية مساحة كبيرة من شعر ناتالي، وكذلك القضايا العربية الأخرى، كالحرب السورية بكل تطوراتها ومآسيها، وقبلها ذكريات الحرب الأهلية اللبنانية المصاحبة لها منذ طفولتها، والتي قالت إنها طالما شعرت بالقرب من لبنان وإن الحرب دمرت أماكن من بيروت لا تزال حيّة في ذاكرتها. وهو انشغال يمتدّ إلى عملها البحثي ونشاطها في أكثر من حقل ثقافي.
لا تعتبر ابنة بيت لحم نفسها سوى شاعرة فلسطينية وعربية، بغض النظر عن كتابتها باللغة الإنكليزية التي خطت بها جميع أعمالها، وإن كان الكثيرون قد باتوا يعتبرونها شاعرة أميركية بسبب إقامتها في نيويورك.
ما سبق لا يمنعها من اعتبار نفسها جزءاً من الحضارة العربية الإسلامية وتاريخها. ارتباط الشاعرة بقضايا منطقتها، لا يتناقض مع انفتاحها على ثقافات مختلفة عاشت فيها، ومع إنسانية متجاوِزة للهويات الضيقة.
عملت حنظل في أكثر من عشرين إنتاج مسرحي ككاتبة، أو كمخرجة، أو كمنتجة، وهي أيضاً محررة أنطولوجيا "شعر المرأة العربية" إلى جانب أنطولوجيات أخرى شاركت في تحريرها. تضمنت كتبها الأخيرة كتاب الومضات "الجمهوريات" (2015)، الذي احتُفي به على أنه "واحد من أكثر الكتب إبداعاً بقلم إحدى أكثر الكتّاب ثراءً وتنوّعاً" وقد فاز بجائزة "فرجينيا فوكنر للتميّز في الكتابة" و"جائزة الكتاب العربي الأميركي".