لعل الحديث عن الإسلام ودراساته، سواءً في البلاد العربية أو عالمياً، أخذ يعرف عملية تراكم تتضافر فيها العديد من المعارف والميادين، مثل علم الاجتماع واللسانيات والفلسفة والأنثروبولوجيا وغيرها.
في حديثه إلى "العربي الجديد"، يلفتنا المؤرخ العراقي خزعل الماجدي إلى أننا "وكأننا ننسى أن الإسلام دين قبل كل شيء، وبالتالي يحتاج إلى علم الأديان لدراسته"، وهو ما يلاحظ غيابه في الفكر العربي، ومن هذا الغياب يستنتج عقدة خوف تجاه علم الأديان تمنعه أن يتأسّس عربياً.
تأتي هذه الملاحظة انطلاقاً من تخصّصات الماجدي المعرفية، وهي تاريخ الحضارات وتاريخ الأديان وعلم الأساطير، وهي خيارات اتخذها وراكم حولها عدداً من الأبحاث والمؤلفات، إضافة إلى مشاغل أخرى كالشعر والمسرح.
يقيم الماجدي اليوم في هولندا، ولا يزال محافظاً على خطٍ رسمه لنفسه منذ قرابة ثلاثة عقود. يقول "منذ أن تخصّصت في الأديان والحضارات، وأنا أراقب الروح الإنسانية أينما تتجلّى، سواء في الدين أو في الشعر أو في المدافن والآبار الخفية للبشرية. أبحث عنها بشكل عنيدٍ وأستخرج مياهها".
يَعتبر صاحب "متون سومر" أن "هذه الروح تتمظهر أكثر في الحضارات القديمة؛ أي قبل أن تتراكم حولها طبقات القرون الأخيرة". يشرح ذلك "الحضارات القديمة حضارات متنوّعة، شفّافة، غزيرة، مُبهجة في ألوانها. بينما كانت حضارات العصور الوسيطة شمولية، متعسّفة، مدمّرة للإنسان". يضيف "أعتقد أننا في تلك المرحلة خسرنا التنوّع الحضاري للبشرية".
هكذا، يشير إلى أن متابع التاريخ "يلاحظ أن الحضارة بدت وكأنها تنتحر شيئاً فشيئاً وتذهب إلى مناطق مظلمة، إذ ظهرت حضارات كابية، عقائدية، معبّأة بالأوهام، ثم جاءت الحضارة العلمية المادية الحديثة فأخفت الجانب الروحي والجمالي أكثر، رغم ما حققته من تطوير وتنوير ورفاهية". لكنه يلفت أن "الروحانيات تظل حاجة لا يمكن للإنسان أن يسكت عليها، لذلك فهي تعود من خلال منافذ أخرى".
بخصوص المرحلة الراهنة، يقول "الحضارة الغربية لها شيء من هذه الشمولية، وقناعتي أن الشمولية غير قابلة للاستمرار، فلها هشاشتها. حتى الانتصار الشامل ينمو في داخله التنوّع الحضاري من جديد".
ضمن هذه السياقات، وضع الماجدي إلى الآن 12 كتاباً في علم وتاريخ الأديان، وعشرة كتب عن تاريخ الحضارات و12 كتاباً في المثيولوجيا، إضافة إلى مؤلفات إبداعية أخرى، وهو يعمل على موسوعة عن تاريخ الحضارات وصولاً إلى الحاضر، أصدر منها أربعة أجزاء إلى الآن.
لعلنا نعثر على مخطط هذه المسارات المتشعّبة التي اتخذها الماجدي في مقدمة كتابه "أديان ومعتقدات ما قبل التاريخ"، حيث يقول "فُتنت منذ زمن بعيد بتتبّع نقلات الروح الإنساني من مناطقها البعيدة إلى عصرنا الحاضر. وإذا كان الشعر السبيل الأشد حميمية للتعبير عن تاريخ الروح فإنني أشعر أنني قد اكتسبت، وأنا أحرث ذلك الطريق، دِربةً في إمكانية كتابة ذلك التاريخ وفك شبكته".
"تاريخ الروح" بالنسبة إلى الماجدي يتضمّن تاريخ الأديان والشعر والفن وشيئاً من تاريخ الفكر. لهذا المشروع الذي اشتغل عليه ولا يزال جذورُه العراقية. يقول "أعتقد أنه لا يوجد تراث كالذي يوجد في بلاد الرافدين، لكنني لاحظت أن كثيرين كانوا يكتبون عن العراق، من عرب وأجانب، واستغربت كيف لا يكتب العراقيون تاريخهم بالشكل الأنسب. دعَم هذا السؤال التخصّص الأكاديمي، فحملت هذا الهاجس إلى آفاق أخرى".
العراق المتقلّب سياسياً انعكس على مشاريع الماجدي، لذلك لم يكن له أن يبدأ في إنجاز ما يطمح إليه إلا مع مغادرة بلاده في التسعينيات ليستقر في مرحلة أولى في عمّان، وهي مرحلة إنتاج عالية حيث أصدر بين 1995 و1998 قرابة 15 كتاباً أهمّها تلك التي ضمّتها سلسلة "التراث الروحي للإنسان".
يقول "لم يكن هناك مؤرّخو ديانات بالمعنى الدقيق في العالم العربي". يفسّر هذا الوضع بالقول "هذا الاختصاص مخيف من جانبين، حساسية الحديث في الدين، وكذلك لضخامة المهمّة التي تحتاج إلى قراءات شاسعة وتعلّم لغات واكتساب مناهج".
الكتابة عن تاريخ الحضارات تقتضي أيضاً مراجع متنوعة، وغالباً ما تفتقر إليها المكتبات العربية. يقرّ الماجدي بهذا المشكل، ولكنه يرى أنه توجد مخارج كثيرة منه مثل الإنترنت ومكتبات الجامعات العالمية. وهو من زاوية أخرى، يقول "لا يمكن الكتابة في علم الحضارات بالاقتصار على مراجع عربية، حتى الكتب التي تُرجمت لا تقدّم إضافة".
ثمة قضية أخرى حارقة، وهي مخزون المكتبات العربية من الوثائق والمخطوطات التي يعتمدها المؤرخون. يرى الماجدي أن "العراق عاش ضربات موجعة على مستوى آثاره ومخطوطاته خصوصاً مع الغزو الأميركي في 2003، والهجوم الداعشي في 2014، لكن المسألة أخطر من تدمير متحف الموصل، فقد نُهبت دار الوثائق ودار المخطوطات وبعضها حُرق وهذه الجرائم اقترفتها عدة أطراف منها دول الجوار، والأميركان هم من نصبوا الخيمة لهذه المحرقة".
ويرى أن ما جرى يثبت أن "تدمير العراق لم يكن للأسباب السياسية والاقتصادية المعروفة فحسب، بل كان له بعد حضاري وله مقاصد نفسية على الإنسان العراقي".
لعل هذه المقاصد تظهر في انشغالاته الأخيرة بموضوع يبدو بعيداً عن اختصاصاته، وهو "الاستشراق الجديد" الذي حاضر حوله مؤخراً في تونس. يقول "ينبغي أن نتفطّن اليوم إلى أنه علينا الالتفات إلى الاستشراق الجديد، لأن الاستشراق بصيغته القديمة أصبح في المكتبة".
هنا يلاحظ صاحب كتاب "بخور الآلهة" أن الاستشراق الجديد لم يُكمل للأسف مهمّة الاستشراق القديم، وهذا مدعاة للتفكير، حيث أن هذا الانقطاع حدث بعد أن بلغ الاستشراق القديم المرحلة الأكاديمية العلمية المعقولة في سبعينيات القرن الماضي".
يتابع "وقتها، ألغيت تقريباً مفردة الاستشراق، وقد تزامن ذلك مع ظهور أطروحة إدوارد سعيد التي ركّزت فقط على الجوانب السلبية من الاستشراق، وكان ذلك سبباً في الإطاحة بالجانب الإيجابي منه".
الاستشراق الحديث بحسب الماجدي بدأ في التسعينيات، وقد أنتج جيلين؛ جيل برنارد لويس وصاموئيل هيتنغتون وفوكوياما، وانتقل من أوروبا إلى أميركا واختلط بالسياسة الأميركية، والجيل الثاني يظهر اليوم وهو أكثر تأدلجاً وظهر فيه مثلاً دانيل بايبس وبت ياور وأوليفييه مووس وأرنست غلنر.
يعتبر الماجدي أن الغرب وكأنه يقول "لم يعجبكم الاستشراق القديم، فسترون الاستشراق على حقيقته، ودفعوا بالأمور نحو الأسوأ". وهو هنا يتحسّر "لماذا أنتج الغرب هذا الجيل بعد أن وصل بصعوبة (3 قرون) إلى استشراق على قدر معقول من الفهم؟".
لعل النقطة التي تتقاطع فيها اشتغالات خزعل الماجدي التاريخية والشعرية هي الأسطورة، وهي بحسبه "الكتاب المقدّس للأوّلين، وعظمته تتجلى بأنه لا يتحدّث عقائدياً، بل شعرياً وقصصيّاً عن العالم".
هذه الأساطير ضمرت مع ظهور الديانات الكبرى، في وقتٍ صعدت فيه العقيدة، ثم جاءت النظرة العلمية مع التنوير الأوروبي فزادت في طمر الأسطورة أكثر.
يقول الماجدي إن "الحضارة الغربية أخذت تضعف في الرؤى التي سبقتها سواء دينية أو أسطورية"، لكنه يشير إلى أن الأسطورة "لم تندثر بل أخذت تتخفى في الأدب والشعر والفنون وحتى في العلم نفسه وفي الرياضة والأيديولوجيا". يضيف، الباحث في علم الأساطير، أن الأمر يصبح كمن يطارد فأراً، فقد ضغط العصر على الأسطورة وأجبرها أن تهرب وتنتشر في أماكن متعدّدة، وأن تتخفى وتستبطن الأشياء".
يستنتج المؤرخ العراقي من ذلك أن "الأسطورة لا تموت لأنها تعطي للإنسان مبرّرات الوجود وهو الذي يشعر بضآلته فيحتاج إلى شيء يربطه بالكون، والأسطورة قادرة على هذا وإن وهماً، وهي حبل سري مع الكون".
مشغل الأسطورة يقودنا إلى فضاء آخر يتحرّك فيه الماجدي، وهو الشعر والتنظير له. يقول "أنا أصلاً مشطور إلى نصفين: جانب إبداعي، وجانب نظريّ بحثي، وأعتقد بأن كل واحد ينفع الآخر". من هنا، كانت تجاربه الشعرية توازيها تجارب تنظيرية تجلّت في كتابه "العقل الشعري". يقول "الكتابة عن الشعر تأتي عندي بعد التجربة، وغالباً ما يكون الأمر حين أكون بصدد مغادرتها".
يقيّم الماجدي المشهد الشعري العربي في العقود الأخيرة بعين المؤرّخ، فيقول "مررنا تاريخياً من مرحلة مؤدلجة للغاية، وهو ما تجلّى في ظهور الفحولة الشعرية أو ظاهرة الشعراء النجوم الذين سيطروا على المشهد الشعري بطريقة مخيفة، وكأنه لا أحد كان يستطيع أن يكتب الشعر خارج دائرتهم".
يعتبر الماجدي أن ذلك "جزء من مركزية الديكتاتور نفسه، أي أنه مقابل الديكتاتور السياسي يوجد ديكتاتور شعري، فكان كل واحد من هؤلاء يمثّل صدى لزعيمه حتى ولو كان معارضاً سياسياً له". ويضيف "العراق أسهم بدرجة كبيرة في ذلك على مستوى مهرجاناته وضجيجه الإعلامي".
يشير صاحب "خزائيل" إلى أن أجيالاً كثيرة "اصطدمت بهؤلاء المَركزيّين، وحين شاخوا ورحلوا، ظهر بعدهم مشهد أقرب إلى لوحة فسيفساء مكوّنة من قِطع تشكّل المشهد". يعقّب قائلاً "أنا أحب هذا المشهد الرحيم الجميل لأنه مشهد طبيعي، ليس فيه فحل يستولي على كل المساحة".
يتابع الماجدي "يبدو أن الشعر - ندري أو لا ندري - قد سبق الحياة السياسية في ذلك، فقد برزت هذه المشاهد الفسيفسائية في الشعر في البلدان العربية في الثمانينيات، بينما بدأت فقط في السنين الأخيرة تظهر في الحياة السياسية العربية".