بعد قرابة سنةٍ على استقلال الجزائر، انتهى نقاشٌ حول المسألة الثقافية شارك فيه عددٌ كبير من الكتّاب والمثقّفين على صفحات جريدة "المجاهد" إلى طرح فكرة تأسيس منظّمة تجمع كتّاب البلد بمختلف توجّهاتهم الفكرية والسياسية، وعلى اختلاف اللغات التي يكتبون بها.
لم يطل الأمر كثيراً حتّى تأسّس "اتّحاد الكّتاب الجزائريّين" في تشرين الأوّل/ أكتوبر 1963، وقد ضمّت قائمة أعضائه المؤسّسين أسماء بارزةً؛ مثل: مولود معمري، ومالك حدّاد، وكاتب ياسين، وجان سيناك، وعبد الله شريّط، وفضيلة مرابط، وقدّور محمصاجي، والعادي فليسي، ومفدي زكريا، ومحمد العيد آل خليفة، ومحمد الميلي، وأحمد طالب الإبراهيمي.
لكن، لم يدم عُمر "الاتحاد" طويلاً؛ فمع الانقلاب العسكري الذي قاده وزير الدفاع هوّاري بومدين ضدّ الرئيس أحمد بن بلّة في حزيران/ يونيو 1965، انفرط عقد ذلك التجمّع ولم يعد له وجود قانوني.
سيتمكّن بومدين من إرساء حكمه، ثمّ يُطلق مشروع "الثورة الثقافية" إلى جانب "الثورتَين" الزراعية والصناعية. وحينها، سيبدو ضرورياً بعث "الاتحاد" من جديد. وستبرز الحاجة أكثر حين تستضيف الجزائر "مؤتمر اتحاد الكتّاب والأدباء العرب" منتصف سبعينيات القرن الماضي. هكذا، سيعهد رئيس البلد إلى الروائي مالك حدّاد، الذي كان موظّفاً سامياً في وزارة الثقافة، بإعادة تأسيسه سنة 1973.
ورغم صفته القانونية، كـ"منظّمة جماهرية" تابعة للحزب الوحيد آنذاك، "جبهة التحرير الوطني"، استطاع "الاتحاد" أن يؤدّي دوراً بارزاً ومؤثّراً في الحياة الثقافية الجزائرية في بداياته، مُستفيداً من قوّة نظام بومدين واستقراره، ليتحوّل إلى أداة سياسية خلال الفترة الأولى من حكم الشاذلي بن جديد؛ حيث أصبح بمثابة "ذراع ثقافية" للحزب الحاكم، وتحوّل إلى وسيلةٍ للحصول على مكاسب سياسية واجتماعية غير متاحة للمواطن العادي.
غير أن هذه المكانة ستتراجع بشكل كبير مع الأزمة الاقتصادية التي ستضرب الجزائر منتصف الثمانينيات. وبعد أحداث تشرين الأوّل/ أكتوبر 1988 ثمّ دخول البلاد عهد التعدّدية السياسية والإعلامية، سيُحاول "الاتّحاد" أداء دور ثقافي أكثر استقلاليةً، خصوصاً خلال فترة رئاسة الروائي رشيد بوجدرة. لكن كل شيء سيتوقّف مع بداية الانحدار إلى أزمة دموية استغرقت عقداً كاملاً.
لم تتوقّف محاولات إعادة الروح إلى جسد "الاتّحاد". لكن تفاقم الصراعات حول "زعامته" أفضت إلى انقسام حادّ في بيته الداخلي مع انتخاب الروائي عبد العزيز غرمول رئيساً له في 2005. وصلت تلك الصراعات إلى أروقة المحاكم، وانتهت باستقالة غرمول في دورة استثنائية لمجلسه الوطني سنة 2008، وانتخاب شاعرٍ مغمور اسمه يوسف شقرة لمرحلة انتقالية رئيساً له في 2009.
غير أن "المرحلة الانتقالية" ستتمدّد لقرابة عشر سنوات، مع تثبيت رئيسه المؤقّت في منصبه لفترتَين متتاليتَين، ما أثار خلافات حادّة بين أعضائه، برزت في شكل اتّهامات متبادَلة عبر وسائل الإعلام، وانتهت بانسحاب عددٍ كبير منهم. كان ذلك بمثابة آخر المسامير التي دُقّت في نعش المنظّمة التي بات مقرّها في "88 شارع ديدوش مراد" بالجزائر العاصمة مهجوراً، إلّا من مكتبيّ ونادل في مكتبة ومقهىً تُسيّرهما دار نشر خاصّة.
واللافت أن الهيئة التي جمعت، في بداياتها، كتّاباً بالعربية والفرنسية والأمازيغية، باتت تقتصر على من يكتبون بالعربية، بعد أن نأى غيرهم بأنفسهم عن صراعاتها العبثية، ربّما من منطلق قناعةٍ بأن الزمن قد تجاوز فكرة "الاتحاد" من أساسها. وقد يكون ذلك أحد تمظهرات الاصطفاف الفكري/ اللغوي في البلد.
خلال تلك الفترة، لم يُذكَر اسم "الاتحاد" إلّا حين يتعلّق الأمر بصراعاته الداخلية؛ كمسألة شرعية رئيسه الحالي، أو قانونية تأجير فضاءاته لناشر خاصّ. عدا ذلك، لم يُسجّل حضوراً يُذكَر في الحياة الثقافية والأدبية، حتّى حين استضافت الجزائر تظاهرات ثقافية "كبرى"؛ مثل "عاصمة الثقافة العربية" في 2007 و2015، و"عاصمة الثقافة الإسلامية" في 2011.
ومؤخّراً، فاجأ "الاتحاد" الرأي العام ببيانٍ ينتقد فيه وزير الثقافة الحالي، عز الدين ميهوبي، ويتّهمه باستهدافه ومحاولة تقزيمه وتحييده عن المشهد الثقافي، مُعتبراً أن "ممارساته لا تعكس تصرّفات رجل الدولة وحياد الإدارة". وجهُ المفاجأة هنا، يكمن في ما يبدو انقلاباً من رئيس "الاتّحاد" على الوزير الذي سبق أن ترأس الهيئة أيضاً، وكان له الدور الأكبر في إيصال شقرة إلى منصبه، رغم المعارضة الشديدة من قِبل خصومه أثناء أزمة "الاتّحاد" قبل عشر سنوات.
ويأخذ "الاتحاد" على وزير الثقافة ميهوبي "عدم إشراكه أو حتى دعوته لحضور الفعاليات التي تنظّمها الوزارة أو تشرف عليها في العاصمة أو الولايات"، والتعامل معه "كوصيّ يُشرف على مؤسّسة تابعة إليه، وهو يدرك تماماً أن الاتّحاد يتمتع بالحرية والاستقلالية".
كما يُشير البيان إلى ما سماه "مضايقات" قال إن مسؤولين ثقافيّين في ولايات مختلفة تعرّضوا إليها من الوزير بسبب تعاملهم مع "الاتحاد"؛ حيث "جرى تحويل أو إجبار عددٍ منهم على التقاعد أو الإقالة، ما جعل الكثيرين يتخوّفون من العمل معنا اتقاء انتقامه".
وردّ وزير الثقافة على تلك الاتهامات، بالقول إن "اتّحاد الكتّاب يُقزّم نفسه بنفسه"، معتبراً أن حصيلته الثقافية خلال عشر سنوات هزيلة جدّاً: "من منكم يذكر فعاليةً واحدة أقامها في السنوات العشر الأخيرة وظّلت راسخةً في الذاكرة؟".
يقول ميهوبي إنه لم يتردّد في دعم المنظّمة الثقافية منذ وصوله إلى وزارة الثقافة قبل أربع سنوات، لكن "من دون فائدة"، مُعتبراً أن "كلّ ما يهمّ مسؤوليها هو طلب تذاكر سفر إلى الخارج، بينما تبقى مشاريعهم الثقافية مجرّد كلام". وعلى سبيل تأكيد كلامه، يذكر الوزير أن يوسف شقرة نفسه حصل من الوزارة على سبع تذاكر لحضور تظاهرات ثقافية خارج الجزائر.
ومُجدّداً، يردُّ شقرة على الوزير بالقول إنه "ليس من حقّ وزارة الثقافة محاسبتنا. الجهة الوحيدة المخوّلة بفعل ذلك هي وزارة الداخلية التي أعطتنا الاعتماد"، مضيفاً أنه لا يُفكّر في الانسحاب من منصبه حالياً "بما أن أعضاء الاتحاد راضون عمّا نقدّمه".
هل انتهى الأخذ والردّ بين "اتّحاد الكتّاب الجزائريّين" ووزارة الثقافة؟ على ما يبدو لم ينته الأمر بعد، ولعلّه لن ينتهي غداً. لكن المؤكّد أن هذه المماحكات تعكس مآلات تلك "المنظّمة الجماهيرية" (بتعبير الفترة الاشتراكية) التي أسّستها أسماء أدبية بارزةٍ كترجمة لضرورة الاهتمام بالثقافة في جزائر الاستقلال، وهو ما يطرح تساؤلاً جدّياً عن جدوى استمرار بقائها اليوم.
الأسوأ أنها تعكس، أيضاً، انحداراً في الحياة الثقافية بشكلٍ عام؛ إذ اختفت السجالات الفكرية والثقافية التي كانت سائدة في زمن مضى، لتحلّ مكانها خصوماتٌ وتجاذبات موضوعُها الرئيسي هو تذاكر السفر.