أشعر بكِ في كل مكان في هذا البلد على الرغم من أننا لم نقضِ أوقاتاً كثيرة معاً. ولكن ما الكثير؟ كنت أنوي أن آتي بك مرة إلى هذا المكان بالذات لعلك تتذكرين ما إذا كنتِ أنت أيضاً تحبّين هذه البقعة في الماضي، قبل أن يغادر جدّي. جدّي الذي لا أعرفه. لعلّك مشيتِ معه في هذه البقعة فهي ليست بعيدة عن بيتك في المنشية.
أشعر بغضب منك! ذاكرتك المحفورة في رأسي فيها شروخ. هل أنا الذي لا أذكر كل ما قلته أنت لي؟ أم أنك قلت ما لم يستوعبه عقلي؟ كنت صغيراً عندما بدأت أسمع حكاياتك. ولما استنجدت بها، اكتشفت شروخها. بدأت أسألك أكثر فأكثر عن تلك الحكايات. اختلطت عليك الأمور، أو لعلها اختلطت عليّ أنا، كلما سألتك أكثر. وكيف لها ألّا تختلط؟ كنت متأكداً أن هناك مدينة أخرى فوق هذه المدينة التي نعيشها. ترتديها. كنت متأكداً أن مدينتك التي تتحدثين عنها، والتي لها نفس الاسم، لا علاقة لها بمدينتي. تشبهها إلى حد الجنون؛ الأسماء والبيارات والروائح وسينما الحمراء وأبولو والأعراس وعيد النبي روبين وشارع إسكندر عوض وشارع النزهة والحلوة وبيارات نهر الجريشه وساحة الساعة... من أين كل هذه الأسماء؟ نمشي في هذه الأماكن فتتحدثين عن أسماء أخرى غير مكتوبة على اللافتات. كان عليّ كذلك أن أتعلم رؤية ما ترين. آخخخ وأولئك الناس! الناس! أولئك الناس الذين أعرف كل مشاكلهم، وكيف تهجّروا من يافا. أعرف تفاصيل حياتهم المملة، وتلك الأكثر إثارة. ونكاتهم. كل هذا وأنا لم أر أيّاً منهم وأشكّ أنني سأرى. يافاك تشبه يافاي، لكنها ليست مثلها. كأنها هي. مدينتان تتقمّصان بعضهما بعضاً. حفرت أنت أسماءك في مدينتي، فأجدني كالعائد من التاريخ. منهك يتجوّل في حياته كشبح. نعم، شبح أنا يعيش في مدينتك. وأنت أيضاً شبح يعيش في مدينتي. ونسمّي المدينتين يافا.
أنتِ كنتِ على عكس الناس! فالناس لا يقوون على الحديث عن مصائبهم عندما تقع. وإن شقرقوا باب ذاكرتهم ليفتحوه قليلاً، فإنهم لا يفعلون ذلك إلا بعد سنوات. لكنكِ فعلت العكس. قلت لي في آخر مرة سألتك عن تفاصيل تهجيركم من حي المنشية إلى حي العجمي في يافا، وكيف عشت مع العائلة المجرية التي أتوا بها إلى بيتكم ليقتسموه معكم: "انبرى لساني من الحكي. وما تسأل أكتر. ما ضلو كتير في البيت إلي هجرونا عليه كنا محظوظين... خلص يا تاتا لشو الحكي؟... تعب الحكي من الحكي".
كنتِ تقولين إنّك كنتِ تمشين في الصباح فلا تعرفينه، لا هو ولا الشوارع، وكأنها كلها هُجّرت مع الذين هُجّروا. حاولت عيناي الطفلتان آنذاك أن تتخيلا المنظر وأنت تصفينه. "كأنها العتمة بلعتهم. كأنّه البحر أخدهم فدية". هكذا وصفت أيّامك والذين شُرّدوا خلف البحر ولم تقولي إن عدد السكان أصبح أربعة الآف تقريباً بعدما كان يفوق مئة ألف. لا لم تقولي هذا. لكنك قلت إنك لم تتعرفي إلى مدينتك من بعدهم. أي يتم هذا؟ أقول، وعقلي يصعب عليه أن يستوعب هذه الأرقام، أو أن يستوعب معنى أن يفرغ البلد من أغلب أهله، أنا الذي ولدت وتربيت في يافا التي هجرتها يافا.
كنت تأكلين البرتقال بشراهة. اعتقدتُ أنك تحبينه لكني تفاجأت عندما قلت مرة، إنك لا تحبين البرتقال ولم تأكليه إلا بعد أن هجّروكم من المنشية إلى العجمي. وأحاطوا العجمي بأسلاك شائكة وأعلنوها منطقة عسكرية مغلقة. لم أفهم لماذا تأكلين البرتقال إذاً؟ إذا كنت لا تحبينه فلماذا كنت تأكلينه؟ لعلك كنت تنتقمين من أولئك الذين كانوا هناك، على الجهة الأخرى من الشاطىء، يتحسّرون على برتقال يافا. كنت دائماً تشتكين أن شجر السرو على جانبي الطرقات أصبح بعد "هديك السنة" كبيراً بلا معنى! يقف هناك لا يفعل أي شيء غير تكنيس السماء من الغبار! تقولين ذلك ثم تضحكين وكأنك تعرفين ألا معنى لما تقولين، لكنك تصممين على أن الأشجار كبيرة بلا معنى! قلت إنّك لم تحبي البرتقال عندما كنت صبية، بل أحببت زهره ورائحته لكن "بعد ما طلعوا صار كل شي إلو معنى تاني أو بدون معنى... وصرت أحب أشوف الناس بتاكل البرتقان، بس أنا بصراحة ولا مرة حبيت البرتقان... أكلته بس ما حبيته أبداً...إففففف خلص يا تاتا تعبني الحكي خلينا نحكي بغير شي... يووووه شو بتسأل كتير يا تاتا!".
قلت لي إنك كنت تمشين في الشوارع مع والدك وتضحكين بصوتٍ عالٍ، والأسلاك الشائكة من حولكم لأكثر من عشرة أعوام. لا خروج من العجمي إلا بتصاريح وحتى اسم يافا استولوا عليه عندما وضعوها تحت وصاية تل أبيب. ألهذا لا أحب تل أبيب؟ هل ورثت أنا هذا الغصة في القلب عنك؟ ولماذا أسكن فيها؟ "وليش ما تسكن فيها؟ هاي فلسطين... هاي قرى يافا وبضلها إلنا.." قلت لي ثم سكت وكأن الكلام أصبح فعل ألم.
قلت إنك خرجت مع والدك في ساعة لا يمكن إلا أن توصف بأنها ساعة من الجنون. كنت تمشين معه وتلقين التحية على الغرباء، لكي توهميه أن ما يقوله صحيح، وأن الناس جميعاً عادوا إلى يافا. قلتِ لي إن والدك خرّف ورأى الناس كلهم هناك. عشر سنوات لم يتمكّن خلالها من التعوّد على يافاه الجديدة... وهل يمكن أن يتعوّد الإنسان على نكبته؟ وبدّلوا أسماء الشوارع بأرقام! كأنه معتقل. بل هو معتقل. بدّلوا أسماء الشوارع بأرقام، ليذكّروكم أنكم في معتقل اسمه يافا، وكأنكم كنتم تحتاجون لمن يذكركم. قلت إن والدك رأى الباص رقم ستة يمر بموعده ورأى شريكه زيكو في محل الموبيليا يعيد له مفتاح قفل المخازن التي وضعوا الموبيليا فيها. "موبيليا"، كنت تحبين هذه الكلمة وتفضلينها على كلمة أثاث. لولا أنني رأيت صورة لوالدك مع زيكو لقلت إن زيكو هذا لم يكن موجوداً أبداً، بل كان شخصية اخترعتموها أنتم. زيكو. أي اسم هذا؟ هل هذا لقبه؟ سألتك فقلت إنك لا تعرفين. زيكو كان شريك والدك، الذي كان صاحب محلات أثاث في يافا. "صادرو البلد والبشر، ما بدهم يعني يصادرو الموبيليا يا تاتا؟ شو هادا السؤال يعني إنه كيف بصادرو الموبيليا... وبعدين كم مرة حكينا أنه بلا من هل حكي... هو أبوي خرف ومات بحصرته من شوي بعد هديك السنة. ليش بضلك تسأل؟ كم مرة بدي أجاوبك نفس الأجوبة كافي حبيبي مشان الله كافي..." قلتِ وعدتي فعل الألم فعل الكلام وذهبت إلى الصمت الذي ازداد.
عرفتِ أنتِ أن والدك خرّف عندما دق على باب غرفتك في صباح منخفض الحرارة وقال إن زيكو زاره في الليل وقال له إن بإمكانهم الذهاب وأخذ الأثاث من المخازن وإعادة فتح المحلات. سكتِّ أنتِ عندما قال هذا. توقّفتِ عن مجادلته عندما كان يصرخ بك أحياناً ويقول إنه يريد أن يعود إلى بيته. وعندما تقولين له إنه في البيت، يتهمك بالكذب. لم تفهمي في البداية ما الذي كان يحدث. لكنك أدركت أنه خرّف، دفعة واحدة. وأدركت أنه سيموت. أيضاً دفعة واحدة. أخذتِه من يده ومشيت معه في صباحه الأخير. "مشيت يا تاتا وحسّيت زي إلّي ماشية على المشنقة، كان اليهود يمكن يقتلونا. ما كان مسموح نطلع على كيفنا. وكل شي محوط بأسلاك... كنا بسجن وهو كان مصمّم إنه يطلع من العجمي. الله ستر، ما بدري كيف، بس الله ستر... طول الطريق وأنا أقرأ آية الكرسي... ومرعوبة...".
أخذتِ نفساً عميقاً بعدما قلت هذه الجملة وكأن كل الهواء الذي في العالم لا يمكنه أن يملأ رئتيك، ما زلت تشعرين بضيقة نفس حادة عندما تتحدثين عن الموضوع حتى بعد مرور أكثر من ستة عقود على نكبتك، نكبة يافا، فلسطينك. أخذتِه من يده وحييت الغرباء وكأنهم من أهل المدينة وقلت إن الله استمع لدعائك في تلك اللحظة، فلم يوقفكم أحد ليسألكم عن تصاريح. وهز المارة رؤوسهم ليردوا عليكما التحية التي كانت بلغة لا يفهمونها. كأن الجميع اتفق على أن يتركوه يودع مدينته. عندما عدتم قال لك إنه سيستحم وينام قليلاً. لكنك عرفت أن القليل لن يأتي بعد هذا النوم. هل عرف أنه سيموت فاستحم قبل موته؟ هل فعلتِ أنت مثله؟ ألهذا استحممتِ قبل الخروج من البيت ورفضتِ أن يأتي معك أحد، ولم تكوني قد خرجتِ لوحدك منذ أكثر من ستة أشهر؟ هل أردتِ أن تموتي وحيدة أمام البحر؟ الناجون هم الوحيدون.
* مقطع من رواية "سِفْر الاختفاء" التي تصدر هذه الأيام عن منشورات الجمل.