يمكننا أن نلخّص الفلسفة الحديثة في ثلاثة مفاهيم: النقد، الكونية، الإنسانوية. طبعاً، حتى إذا فكرت الفلسفة الغربية خارج هذه المفاهيم، فإنها مضطرّة أن تفكر ضدّها، كأن تفكر تفكيكياً ضدّ النقد، وضدّ ما يسميه جاك دريدا بإرادة ـ القول Le vouloir- dire، أو هايدغر بالتمركز حول الواحد ad unum vertere أو في الاختلاف ضد الكونية، أو لا إنسانوياً anti-humanism ضد الإنسانوية.
ولكن في ما وراء كل ذلك، فإن أبرز ما يميّز الفلسفة الغربية هو تاريخيتها وتأكيدها على هذه التاريخية، فالفلسفة، كما عرّفها هيغل في تصديره لكتاب "أصول فلسفة الحق": "زمنها وقد صيغ في أفكار".
وقد نبحث في تاريخ الفلسفة كله عن تعريف للفلسفة بقوة ما كتبه هيغل، ولكننا لن نجده، وهو التعريف الذي لم يفقد شيئاً من راهنيته، بل إن الفلسفة لن تكون لها قيمة، ما لم تطرح سؤال زمنها، واقعها، سياقها التاريخي، وستتحوّل إلى مجرّد لغو منطقي أو إلى أيديولوجيا إذا صمّمت على طرح أسئلة زمنها بشكل خاطئ أي بشكل غير زمني، كأن تبحث مثلاً عن هوية الفكر في ماض سحيق انقطعنا عنه تاريخياً أو لم يعد له ما يقوله لعصرنا أو أن تخضع لابتزاز السلطة السياسية أو ابتزاز الدهماء أو رجال الدين.
ولكن، لن تكتمل مقولة هيغل أو تنفتح أكثر إذا لم نلحقها بماركس، وإذا لم نفكر في الفلسفة أيضا كممارسة ضد زمنها وقد صيغت في أفكار، فطريقة تعبير الفيلسوف تظل الفكرة، حتى وإن تحولت إلى أسلوب شخصي مع كيركيغارد أو سخرية مع نيتشه أو تفكيكية مع دريدا، فهي في تحولها ذلك، توسع أفق الفكرة ولا تغلقه أو تغادره. وحتى ألخص، يمكننا أن نكتب: إن الفلسفة تفكير في الزمن وضده، لكن التفكير ضد الزمن يتم من داخله لا من خارجه كما يفعل الخطاب الديني.
يدعونا ذلك من جهة إلى التفكير في زمنيتنا، وفي واقعنا، وفي أسئلة حياتنا اليومية، ولكنه يدعونا أيضاً إلى قراءة التراث الفلسفي انطلاقاً من زمنيتنا تلك، إذا ما طمحنا إلى الاستعانة بذلك التراث في فهم واقعي ووعيه.
فنحن كعرب ننتمي إلى "سياق التخلف"، لا يمكننا أن نقرأ الفلسفة الغربية إلا انطلاقاً من هذه الهموم وليس من خارجها، أي انطلاقاً من أسئلة واقعنا، وفي هذه اللحظة فقط، سنتجاوز التقليد وليس عبر وهم بناء مفاهيم جديدة من خارج الحداثة.
إن من يريد أن يقرأ الفلسفة الغربية انطلاقاً من سياق التخلف، ومن وضعه التاريخي كعربي أو أفريقي ما زال يخضع للاستعمار الخارجي والداخلي، ويعاني من مختلف أشكال الأبرتهايد، العنصرية منها والاجتماعية والاقتصادية والمعرفية، هو لا ريب يفكر داخل زمنه وليس خارجه، ولكن يتوجّب أن نحذر في هذا السياق من أن نقع في الأيديولوجيا، أي أن نعمد إلى قراءة الفلسفة الغربية بعقلية استغرابية، هي ليست أكثر من استشراق معكوس، أو أن نقرأها بشكل انتقائي وبشكل مغرض، يطلب تأكيد الذات ومظلوميتها وليس لقاء الآخر، والذي هو طريق معرفة الذات والآخر.
وهنا سيخطئ لا ريب من ينتقد ذلك التماهي بين اليهودية والإيتيقا في الفلسفة الغربية بعد الحرب العالمية الثانية مثلاً، لأن تلك الفلسفة يتوجّب قراءتها انطلاقاً من أوشفيتز كما يتوجّب قراءة أوشفيتز انطلاقاً من تاريخ العقل التنويري، الذي، في رفضه لليهودية، كان يرفض الإسلام أيضاً وما زال يرفضهما معاً، كما تؤكد ذلك الإسلاموفوبيا اليوم والتي تظل عداء مقنّعاً للسامية، بل لا يكلّف نفسه حتى تغيير أحكامه المسبقة ولغة هذه الأحكام التي صاغها منذ قرون خلت.
إن العقل النقدي في هذا السياق هو من يستطيع أن يوضّح بأن الصهيونية نقيض اليهودية ونقيض عقلانيتها الدياسبورية. لقد أدرك إدوارد سعيد ذلك وهو يصف نفسه بأنه آخر يهودي، فاليهودي اليوم هو المسلم والعربي والأفريقي، والمسيحي المضطهد في بلاد العرب، والأمازيغي المضطهد في شمال أفريقيا، والكردي المضطهد في كل مكان. إنه باختصار ذاك الذي يطلب العقلُ صهرَه وإلحاقه بنظام الأنا، يحرمه لغته ويمنعه عن وجهه.
كما أنه سيكون أمراً لامسؤولاً، على سبيل المثال لا الحصر، أن نعتمد على مقابلة في الراديو لمحاكمة فلسفة مثل فلسفة إيمانويل ليفيناس، ونصرف النظر عن مقابلات ومواقف أخرى لهذا الفيلسوف انتقد فيها سياسة إسرائيل الاستعمارية، وظل يؤكد بأنه لا يمكن اختزال التاريخ اليهودي في القومية اليهودية كما أن موقفه من الشوفينية اليهودية في فرنسا بعد حرب الأيام الستة واضح، خصوصاً في الانتقادات التي وجّهها لـ أندريه نهير، معتبراً بأن اليهود بدأوا يفكرون مثل مستعمرين، وحتى بعد مذبحة صبرا وشثيلا سيؤكد تورّط الجيش الإسرائيلي في المذبحة، في مقابلة مع ألان فينكيلكروت على راديو Communauté اليهودي، سيؤكد قائلاً: "إن الانتساب إلى الهولوكست من أجل القول بأن الرب معنا في كل الظروف هو أمر بغيض شأنه في ذلك شأن "الرب معنا" التي كانت تظهر في أحزمة الجلادين"، ويعني بذلك النازيين في مراكز الاعتقال النازية. أما ما يمكنه انتقاده في صهيونية ليفيناس، والتي لم تتحوّل البتة إلى جزء من خطابه الفلسفي، فيكمن في أنها تغفل، كما أوضح دريدا، في تأكيدها على أنها صهيونية لاقومية، أو أنها صهيونية لا تخضع لإغراء قومي، أننا لن نجد قومية لا تطلب أن تصبح كونية أو تتخذ طابعاً كونياً.
لكن الأدهى في القراءة الأيديولوجية للفلسفة الفرنسية، أن تعتبر أن دريدا نفسه قد سكت عن المأساة الفلسطينية ولم يقل شيئاً عنها، هو الذي ظل يردّد بضرورة اقتسام السيادة، ومعتبراً أن القدس تتحقق خارج منطق الملكية. بل هو الذي كتب منذ عمله "الكتابة والاختلاف" بأن اليهودية ليست في حاجة إلى دولة قومية، وأنها لا تتحقق إلا خارج منطق الانتماء القومي، في انتماءها إلى العالم، مردداً مع إدموند جابيس بأنه "لا يعرف سوى أحجار الطريق التي تقود، كما يقولون، إلى الأرض".
إن فلسفة واقعية تطلب تحويل الفلسفة الغربية إلى فلسفة نقدية، وبلغة أخرى، تملُك فتوحاتها النقدية واستعمالها في مواجهة الواقع وأسئلته الملحة. هذا ما فعلته مثلاً جوديث بتلر في كتابها الصادر عام 2012 "مفترق الطرق: اليهودية ونقد الصهيونية"، وهي تؤكد بأن معارضة الصهيونية تمر عبر تأكيد التقاليد اليهودية المناصرة للعدالة. وأطروحتها، والتي استقتها في الواقع من ليفيناس، والتي تقول بأن اليهودية هي تفكيك للهوية، وعبر ذلك لليهودية كهوية دينية، تمتلك وظيفة نقدية تجاه الصهيوينة التي تمثل انحرافاً هوياتياً بالنظر إلى هوية دياسبورية، هي خارج الهوية. ومن أجل تأكيد هذه الوظيفة النقدية لليهودية ضد انحرافات الهوية وسياساتها، ستعتمد بتلر على فلاسفة يهود، من بينهم ليفيناس وفالتر بنيامين وحنا أرنت وغيرهم.
إن استعمال هذه التقاليد اليهودية في نقد الصهيوينة لا يفضح السيطرة الصهيونية على فلسطين فقط، ولكن على اليهودية أيضاً. أما من يعتقد، شأن سلافوي جيجيك وآلان باديو، بأن حل الصراع في الشرق الأوسط يمر عبر العودة إلى التقليد اليوناني، أي في الكونية وليس في الدفاع عن الخاص والمختلف والمتنوّع، فإنه يتناسى أن الصهيونية ليست بنت التقليد اليهودي، وأنها أفرغت الروح اليهودية من مكوّنها الدياسبوري أو الإيتيقي وحولتها إلى لاهوت سياسي.