لا تزال سيرة المخرج المصري الراحل شادي عيد السلام (1930 ـ 1986)، الذي حلّت ذكرى رحيله الـ28 أول من أمس، مثيرة للفضول والتأمل. رغم تجربته القصيرة ورحيله المبكّر، تميّز عبد السلام بإضافته النوعية ولغته السينمائية الخاصّة، والمجددة في السينما المصرية والعربية. مسيرة لم ينخرط خلالها في دوّامو الأعمال التجارية التي ابتلعت كثيراً من مخرجي زمنه.
عبد السلام الذي تلقّى تعليمه الأكاديمي في "كلية الفنون الجميلة" في القاهرة، وتخرّج فيها كمهندس معماريّ عام 1955، بدأ مسيرته كمدوّن للوقت الذي تستغرقه اللقطات في أفلام الخمسينيات، وعمل مساعداً لمخرجين من أمثال هنري بركات وصلاح أبو سيف.
ونظراً إلى تغيّب مهندس ديكور فيلم "حكاية حب" (1959)؛ حلّ مكانه، وكان لافتاً في تنفيذ التصاميم، ما جعل المخرجين يلتفتون الى موهبته، ليصبح أحد أهم المتخصصين في مجالي الديكور والملابس، ويلمع نجمه في أبرز الأفلام التاريخية العربية، من قبيل "وا إسلاماه" (1961)، "ألمظ وعبد الحامولي" (1962)، و"الناصر صلاح الدين" (1963)، و"رابعة العدوية" (1964).
هكذا، بات من أهم المستشارين الفنيين في الأعمال العالمية التي تناولت الحضارة الفرعونية، كالفيلم الأميركي الشهير "كليوباترا" (1963) لجوزيف مانكيفيتش، والفيلم البولندي "فرعون" (1966) لجيرزي كاوليروفيتز.
وكان للقائه بالمخرج الإيطالي روبرتو روسيليني في القاهرة، الذي أطلق عليه في ما بعد توصيف "صاحب اليد المثقّفة"، بالغ الأثر والإلهام، دافعاً إياه إلى الإخراج، فبدأ العمل على شريطه الروائي الطويل الوحيد "يوم أن تُحصى السنون ـ المومياء"، عقب النكسة، مستغرقاً في العمل عليه نحو ثلاث سنوات، ليخرج إلى الصالات عام 1970.
أحداث الشريط مستوحاة من واقعة حقيقية معروفة باسم "دير البحري"، تعود الى عام 1881. الحديث هنا عن قضية تهريب الآثار والمومياءات الفرعونية للأسرتين الـ 18 والـ 19، من قِبَل قبيلة الحربات في مدينة طيبة الأثرية، التي اعتمدت التهريب مهنة سرّية توارثتها جيلاً بعد جيل.
وحين يتوفى شيخ القبيلة، يخلفه ابنه ونيس، بطل الفيلم، وشقيقه، في مهنة بيع الآثار التي لم يكن يعرفا شيئاً عن أسرارها. هكذا، سيصدم الشقيقان بهذه "المهنة" ويرفضان القيام بها. فيُقتل الأخ ويصبح ونيس ملاحقاً ومهدداً بالقتل.
وبعد تسرّب معلومات تشير الى عمليات نهب الآثار، تصل بعثة "أفنديّة" من القاهرة على متن باخرة، بكل ما تجسّده من تضادّ بين الحداثة التي يجسّدها القاهريون المتعلّمون، القادمون من المدينة في بحثهم وحرصهم على حماية الآثار؛ و"الحربات" المقتنعين أنهم يتمسّكون بعاداتهم وتقاليدهم، والذين يرون في الأفندية غزاة يهدّدون مصدر عيشهم.
يحاول ونيس أن يُطلع الأفندية على سرقة الأثار الفرعونية، متمرّدا على نهج قبيلته. وكأن عبد السلام يوصي بالحفاظ على الحضارة القديمة وعدم التفريط فيها، كي لا تحدث نكسة جديدة.
التحديث على مستوى اللغة السينمائية في "المومياء"، يتجلّى في عدة عناصر نلحظها للمرة الأولى في الفن المصري السابع، إذ لم يعتد المشاهد الإيقاع البطيء للأحداث ولحركة الشخصيات وتعبيرها.
ويوحي ذلك بتأثر عبد السلام بأفلام المخرج الياباني أكيرا كوروساوا، في استدعاء للتأمل تثيره المكوّنات البصرية للقطة السينمائية، وأهمها الدقّة الفائقة في بناء المشهد، وتحديد الأبعاد بين مكونات اللقطة من شخصيات وأغراض جامدة، ومن خلال تزيين الشخصيات النسائية على الطريقة الفرعونية، وكذلك عبر توظيف تصميم الملابس لتخدم ما هو أبعد من الشكلي، ليلقى المشاهد نفسه أمام كتل من المتّشحين بالسواد في القبيلة، مقابل الأزياء البيضاء والفاتحة للأفندية، للدلالة على التضاد القيميّ بين المجموعتين.
وعلى المستوى السماعيّ، ساهمت الموسيقى التصويرية الخاصة التي ألّفها الإيطالي ماريو ناشيمبيني في تعزيز الجوّ الساحر في الشريط، من خلال مقطوعات مؤلفة من هزيز رياح صحراوية. كما كان للحوار المكتوب بالعربيّة الفصحى، على قلّته، رنيناً ووقعاً سماعيّاً جذّاباً زادا من خصوصية العمل.
الشريط الذي حاز عدة جوائز عالمية، تأخر عرضه التجاري في مصر حتى عام 1975، ولم يلق نجاحاً ورواجاً جماهيرياً عربياً إلى يومنا هذا، رغم تصنيفه من قبل سينمائيين عرب وغير عرب كأهم شريط سينمائي في تاريخ السينما المصرية.
وفي الوقت الذي ترمّم فيه شركات عربية أفلاماً هزيلة وتجارية، يغيب عنها "المومياء"، الذي تولّت ترميمه "مؤسسة السينما العالمية" التي أسّسها ويرأسها المخرج الأميركي مارتن سكورسيزي، للحفاظ عليه بجودة عالية.
أخرج عبد السلام عدّة أفلام قصيرة، منها "شكاوي الفلّاح الفصيح" (1970)، المأخوذة أحداثه من بردية قديمة تعود إلى الأدب الفرعوني للدولة الوسطى (2200 ق.م.). كذلك، قدّم الفيلم التسجيلي "آفاق" عام 1972 الذي تناول المشهد الثقافي المصري للعام نفسه.
أما مشروعه الأهم الذي لم يتمّمه، فهو شريط روائي طويل بقي قيد التحضير والانتظار لمدة عشر سنوات، إثر رفض عبد السلام تسليم مشروعه لجهة إنتاج غير مصرية، رغم تدفّق العروض الأجنبية. وكان العنوان المفترض للشريط "مأساة البيت الكبير ـ أخناتون".
وكان من المفترض أن يتناول المخرج في هذا العمل مأساة الفرعون الذي حاول توحيد الآلهة المصرية القديمة، ضمن مسعى لخلق دين توحيدي جديد، إلا أن الكهنة استعادوا بعد مماته الدين القديم تدريجياً وشوّهوا سمعته.
وبكثير من المفارقة، يجسّد الشريط مأساة صاحب "المومياء"، نظراً إلى تراجُع وزارة الثقافة المصرية عن إنتاج عمله، فور شيوع نبأ مرضه الخبيث، فتفاقم وضعه الصحي إثر ذلك ورحل، مخلّفاً وراءه مسودّات السيناريو والتصميمات الواعدة، لتخسر السينما العربية والعالمية مخرجاً أبدع ورحل بصمت، في ما يشبه خاتمة درامية لشخصية فرعونية قديمة.