العلاقة بين الروائي وشخصيّاته من مباحث النقد الأصيلة. رأى فيها البعضُ، مثل رولان بارت، علاقة خلْق وتخييل، "يموت" خلالها المؤلف الحقيقيّ وعلى أنقاضه ينبعث الراوي ليحرّك الشخوص الورقية ويُجريها أمام القارئ. واعتبرَها البعض الآخر انعكاسًا صادقًا للكاتب الحقيقي ولمواقفه، مرآةً صافية تُظهر بوفاء ما شهده من أحداثٍ، وقناعًا شفافًا لحياته ومواقفه، وإن لم تكن من جنس السيرة الذاتيّة.
وإلى جوهر هذه العلاقة وأغوارها الخفيّة يعود الكاتب الفرنسي غيوم موسو (1974)، من خلال روايته الأخيرة، "الحياة رواية"، التي صدرت منذ أيام عن منشورات "كالمان ليفي" بباريس. وهي روايته السابعةَ عشرة، مع أنه لم يبلغ من العمر سوى سبعٍ وأربعين سنة، محققًا أرقامًا مذهلة في الإنتاج والنشر والترجمة في وقت وجيز (بدأ الكتابة الأدبية في 2001)، ومنها وصول عدد من رواياته إلى القارئ العربي.
"ذاتَ يومٍ من أيام نيسان، اختَفَت ابنتي كاري ذات الثلاث سنواتٍ حينما كنّا نلعب معاً لعبة الغُمَّيَضة داخل شقتي في بروكلين" بهذه الجُمل بدأت الروائية فلورا كونواي، ذات الحياء الأسطوري، تخطُّ أولى كلمات قصّتها. ولم يكن لاختفاء ابنتها كاري من تَفسير معقولٍ، إذ كانت كلّ أبواب الشقّة ونوافذها موصدة. كما لم تُظْهر كاميرا الشقة أي كسرٍ أو تسوّرٍ. تحقيقات الشرطة لم تسفر عن أي شيءٍ يعوّل عليه للكشف عن مصيرها.
وفي ذات الآن، وعلى الضفة الأخرى من المحيط الأطلسي، يقبع رومان أوزرسكي، كاتبٌ كسير القلب، في بيتٍ قديم. وهو الوحيد الذي يمتلك مفتاح سرّ الاختفاء. فتسعى الكاتبة فلورا، طيلة فصول الرواية، إلى إخراجه من مَكمنه واستدراجه للبوح بالسرّ. وهكذا تبتدئ القصص الفرعيّة في التناسل، تخفي القصة-الأمّ حكايات أخرى ضمن منطق المتاهة، حيث تضيع الحدود بين الواقع والخيال، بين الحياة والرواية، بين الكاتب الحقّ، الكائن من لحمٍ ودم، وبين شخوصه التي يَنحَتها من نسيج الكلمات ولَمْعَة السرد.
ثم تتطوّر الحبكة سريعًا، عبر ثَلاثة فصول، تلتقي خلالها البَطلة فلورا مع رومان أوزرسكي (هل هو قرين موسو ومرآتُه العاكسة لقَناعاتِه ورؤيتِه للكون؟)، فهو كاتبٌ ذائع الصّيت، نجاحه مدوٍّ، إلا أنّه يعاني فراغًا وجوديًّا على إثر أزمة حادّة ضربته على المستوى الشخصي والعائلي.
وفي أثناء هذه التطورات، يستغل موسو انفتاح الحبكة ليعبّر، على لسان بَطله ومن خلال لعبة التناص واستحضار الذاكرة، عن امتنانِه للمؤلفين الذين تأثّر بهم مثل: سيمنون، وستيفن كينغ، ورومان غاري، وفلوبير... مع ذكر عناوين كُتبهم في قائمةٍ آخرَ الرواية، وهنا أيضًا تَختلط علينا الأصوات وتتداخل النّغمات إيغالاً منه في خلط الأوراق ونَسف الحُدود بين الأجناس والصيغ والأقاويل، بين المؤلف وشخوصه، وهي علاقة تملّك وهوَس، يعرفها كل من عانى تجربة الكتابة وأدرك كيف يسكن البطلُ خالقَه-الكاتبَ فيُفسدَ عليه ليلَه ونهاره، حين يدفعه إلى نحت سِماته وتطويره نفسيته.
أوغلت حِبكة "الحياة رواية"، بشكل خاصٍ، في العبثية والتعسّف حيث يتخذ موسو أسلوبًا روائيًا يخرق به كل القوانين السردية فيدمج من التطورات ما يكسر به التوقعات المألوفة. فليس من مَضمون تعودُ به، أيها القارئ، سوى أن يدفعك إلى التفكير في الكتابة وآثارها الساحرة عليك وعليه معًا، فكأنَّ هذا الروائي الفرنسي، يخوض بك مسالك الإبداع نحو منابع التأليف الأولى وأسرار العلاقة الرقيقة التي يعقدها المؤلف مع شخوصه حيث "يَخلُقها"، والعبارة لباختين، من العَدم الهُلامي إلى متون الكلمات.
ولعلّ مقارنةً عفوية مع نزعات الرواية العربية الراهنة تُظهر لنا بعض الفوارق في اختيار الموضوعات، فالقِصص عندنا، عمومًا، مشدودةٌ إلى الحقل السياسي، لصيقة بتصوير أوضاع الاستبداد، قبل "الربيع العربي"، وبواقع الضياع بَعده، مع تركيز مزعج على قضايا الجَسد وتحوّلات مجتمعاتنا بسبب انتشار وسائل التواصل الاجتماعي. وأما الرواية، عند موسو خصوصًا وهو من أبرز وجوهها في فرنسا، فكادت تعتزل الشأنَ السياسي-التاريخي وغدت أقرب إلى بحثٍ صوري في أشكال السرد وأبنيَة القصّ، بحثًا عن المنابع الأولى لفن القَول.
ولقد تأنّق الكاتبُ في تصوير العلاقة الخفية بين الراوي بما هو قوة حَكي، وبين شخوصٍ نصوصيّة، هي من ابتكار الذاكرة وصنع الكَلِم وأوهام القراءة حتى تسبح العيون في سطور الصفحة. ولا ندري لماذا تغيب مثل هذه الثيمات النفيسة من نصوصنا العربية، التي لا تفتأ تَصدم وعينا بالتاريخ. وهو صادم عتيّ.