يشرب محمد المرابط من فنجانه ويستهل سرد حكاية: "في عام 1810، كنتُ أعيش في شارع القلعة، قريبا جدا من ساحة الثيران، جنْبَ حانة كِيدْ غالْيانا. كانت لديّ سبعُ بنات، وكنتُ فقيراً جداً". إنها الحكاية الثالثة التي عنَّ له أن يسردها منذ أن بدأنا نتحدّث في مقهى باريس الكبير. لقد نبَّهني إلى ذلك لمّا طلبْنا ما سنستهلك، شايٌ أسودُ له، وأخضر لي، وكلاهما بالنعناع: لم تهْجُرْهُ السّمكةُ التي تُلهِمه حكاياتِه بَعْدُ.
انتصفتْ ظهيرةُ يومٍ صافٍ ووهاج من الرّبيع الطنجيّ. جاء المرابِط مصحوبا بابنته عائشة، واحدة من أبنائه الأربعة الأحياء الذين وُلِدوا من قرانه بزوجته. وهي كأبيها تتحدّث إسبانية راقية، كما أنها جميلة.
يبلغ المرابط 80 عاماً، وهو لا يزال وسيماً. رجُلٌ ضئيل ولَحِيم ويُحافظ على كلِّ شَعَره الذي صار الآن أشهب. يُزعجُ مُشكلٌ في دوران الدم حركةَ ذراعه اليُمنى، تلك التي يُحصِّل بها على قوت يومه بِرَسْمِ لوحات في الأعوام الأخيرة، مما يضطرُّه إلى تعاطي حُقن.
لم يستعمل الذراع اليُمنى أبدا كي يكتُبَ، ولا اليُسرى. المرابط أُمِّيٌّ، لا يعرف الكتابة ولا القراءة. يَقُصُّ حكاياته جَهْراً مثل الحكواتيين التقليديين في مقاهي المغرب وساحاته وأسواقه. وقد أصْدرَ بول باولز من هذه الحكايات أربعة عشر كتاباً، من بينها "حب من أجل حفنة شعر".
يُفسِّر لي المرابط سببَ أُمّيته. لمّا كان في العاشرة من عمره أو الحادية عشرة، سجَّلهُ أبوه في مدرسة فرنسية في طنجة، لكنْ هنالك، في أحد أيامه الأولى بالمدرسة، غلبَهُ النعاس، فاستغرقَه النوم على المنضدة، بينما كان الأستاذ يخُطُّ أشياء في السبورة. "الأستاذ، ابن الفاعلة، شدَّني من شَعري، وانهال على رأسي ضربا بقضيب من شجرة الزيتون، فدفعتُه على المصطبة كي يسقط، ولما كان أرْضاً، رميْتُه بثلاثة كراسٍ".
فرَّ المرابط من المدرسة، مضى إلى بيته، وأطلعَ أباه على الواقعة، فضربَهُ هذا الأخير أيضاً. حينئذ ترك عائلتَه، وسكن في كوخ، صحبة صديق يُدعى مصطفى، في حيّ المواخير بالمدينة العتيقة، بين السّوقِ الداخلي والميناء."كنا نسرق الويسكي والدخان من مخازن الميناء، ونعيش بذلك"، يقول.
كان خَشِناً، وقوياً، وشُجاعاً. كان يتواجه باللكمات وحتى بالسكاكين مع منْ يشعر بأنه يرغَبُ في إهانته. وُلِدَ المرابط في طنجة سنة 1936، له روح ريفيّة: حساس، ذو أنفة، وقادر على العنف إذا ما مُسّتْ حُريتُه وكرامتُه. الإسبان عانَوا من ذاك الطَّبع المناهض للتسلُّط سنة 1921 في كارثة أنوال؛ وقد كبحه الحسن الثاني بالنار والدم سنة 1958.
اشتغل المرابط بعد ذلك صائد سمَك، ومُلاكماً، ونادلاً. اكتسبَ من الحرفة الأولى فنّ الحكي. "عثرْتُ يوما على سمكة ألقتْها موجةٌ قوية جداً على صخرة. كلَّمتني السمكةُ: إنْ تأكلْني تربحْ شيئا قليلاً، وإنْ تبِعْني تَغْنَمْ شيئا أقلَّ أيضاً، لكنْ إنْ تتركْني أعيش أعْرِفْ كيف أشكركَ على ذلك بكنز" تلك السمكة التي أنقذَ حياتَها هي التي تزوِّدُه منذئذ بكنز من آلاف الحكايات. تزورُ السمكةُ المرابطَ وتهمس له بالحكايات في أذنيْه.
كان اسمُه الاحترافي طرزانَ، خلال مرحلةِ امتهانه الملاكمة. ويتذكَّر المرابط الجولة الملحمية التي قام بها عبر إسبانيا. كان يتدرّب بنزاهة وكان كتلةً من العضلات. تلك التمارين الرياضية وطُولُ عُمُر أفراد عائلته يُفسِّران الاقتراب من المائة عام، ويَرُدّ إليهما بلوغَه الثمانين في لياقة بدنية حسنة.
لكنّ عمله نادلاً هو الذي انتهى به إلى أن يجتمع بالكُتّاب الأميركيين الذين كانوا قد حوَّلوا طنجة إلى ملاذهم على غرار "جزيزة السلحفاة" بهايتي. ففي نهاية 1950، كان المرابط نادلاً بمطعم "طنجة إِن" Tanger Inn، في شارع ماجِلّان، وكان مطعم "طنجة إِن" بالمدينة يُحصِّل على أفضل أنواع الويسكي والرُّون ومشروب العرعر من القاعدة الأميركية في الدار البيضاء. هناك كان يَحُلّ بول وجان Jane باولز، وترومان كابوتي، وتينيسي ويليامز، وويليامز بورُوْز، وجاك كيرواك، وألانْ غينزبرغ.
كان بورُوْز هاربا من العدالة المكسيكية، التي كانت ترغب في محاكمته لقتله زوجته بطلقة نارية عندما كانا يلعبان في غِيِّيرْمو تِيل. كان يكتب "غذاء" عاريا في غرفة بفندق "المنيريّة"، فوقَ "طنجة إِن" تحديدا. وانطلاقا من الجهة الأخرى من ديوان الشراب بالحانة، كان المرابط يراه ويرى جميع المهاجرين الآخرين يشربون مثل القوقازيين، ويتحرّكون داخل سحابة دائمةٍ من دخانِ الكيف والحشيش وهم يتأمّلون الفتيان المغاربة. كان يؤلِّف في رأسه الحكايات.
ذات يوم من 1962، كان أحد الأغنياء الأميركيين سيُقيم حفلة في فِيلّاتِه بمنطقة "الجبل الكبير" فتعاقد معه للعمل نادِلاً. وفي لحظة معيَّنة، أخذ قسطاً من الراحة، فخرج إلى الحديقة وهناك عثر على امرأة وحيدة بكأس في يد وسيجارة في أخرى. سألها عن سبب وجودها وحْدَها، فأجابتْه بأنها تسأم أن يكون الموضوع الوحيد للنقاش هو وسامة الفتيان وجمال الفتيات.
ابتسمَ المرابطُ، الذي كان من جهته ذا جَمالٍ زائغ يفتن الطرفين، لأنه كان يَعْلَمُ عمّا تتحدَّث تلك المرأة، وقدَّم نفسَه، فقالتْ له إنّ اسمَها هو جانْ باولز.
حدَّثتْ جانْ باولز زوجَها عن الشابّ المغربي الذي تعرَّفتْ إليه في الحفل، وأكَّدتْ له أنّه حكواتيّ كبير. دعا باولزُ المرابطَ إلى بيته، ووضع أمامَه مُسجّلة وميكروفوناً، وشجَّعه على التكلُّم. وهكذا نشأتْ علاقة بين الكاتب الأميركي والأمِّي الطنجِيّ، وامتدّتْ إلى غاية وفاة الأوّل سنة 1999.
كان المرابط يُسجّل حكاياته بالدارجة، أي اللهجة العربية المغربية المحلّية، وبعد ذلك كان يُترجِمها إلى الإسبانية لأجل بول باولز. وكان الأخيرُ يَرقُنها بالآلة الكاتبة من الإسبانية إلى الإنجليزية. هكذا، ظهر أربعة عشر كتابا فيها توليف بين الوصف الواقعي لحياة الطبقات الشعبية المغربية وإغارات على عوالم الجِنّ، والساحرات وتعازيمهن وتمائمهن، والعلاج من شر العيْن.
أثناء ذلك صار المرابط الرَّجل المسؤول عن كل أمور البيت. اشتغل سائقاً لباولز، أو بستانياً، أو طباخاً، أو لحّاماً، أو بنّاء، وكان يُخالط أصدقاءَه، كان بوروْز يبدو له رجُلَ عصابة، لكنه كان يستطيب تينيسي ويليامز جدا، الذي دعاه إلى قضاء فترات طويلة معه في الولايات المتحدة.
المرابط الآن هو الحيّ الوحيد الشاهد على ذلك الزمان من سنوات 1950 و1960، التي كانت فيها طنجة إحدى العواصم الثقافية لكوكبِنا. هو وفرقة رولينْغ سْتُون هم الأحياء الباقون، أما الآخرون فقد ماتوا جميعا: بول وجان باولز، وجان جُنيه، وكابوتي، وويليامز، وبوروْز، وشكري...
أقسمَ المرابطُ على القرآن، منذ نصف قرن، ألّا يشرب الكحول، وقد نفّد وعده. منذ سنوات قليلة، تخلى عن شرب الدخان وتدخين الكيف. "أطلُب من الله، كلَّ يوم، أن يغفر لي الأشياء التي اقترفتُها لما كنتُ شاباً"، يقول.
تبادلْنا النظرات، فأحسسْتُ أن لدى الرَّجُل عمَلا أدبيّاً، وعلى الخصوص، لديه حياة. أشرَقَ وجهُه حينئذ بابتسامة وصَفتْها عائشة، ابنتُه، كأنها لـ "طفل عفريت". إنها الابتسامة التي سحرتْ جانْ باولز في ذلك الحفل سنة 1962، في "الجبل الكبير".
* ترجمة عن الإسبانية مزوار الإدريسي