في صمتٍ لافتٍ مرّت اليوم ذكرى عشرين سنة على رحيل المؤرخ وعالم الاجتماع العراقي علي الوردي (1913 - 13 تموز 1995). صمتٌ في تباين حاد مع ذلك الصخب المتواصل الذي عاش على وقعه الوردي مع مجمل النخبة العراقية طوال سنوات حياته. ولعل أهم مشاريع المفكر العراقي، هي سبب هذا التباين، بين حضوره الطاغي وخفوت الحديث عنه اليوم.
مثلاً، انبرى الوردي لتحليل الشخصية العراقية، وهو موضوع مثّل عنصر جدل في عراق الستينيات والسبعينيات، حيث أن الدولة كانت تسعى إلى تشكيل شخصية عراقية نموذجية كجزء من مشروعها، وبناء على مواقف المثقفين منها كانت المواقف من أطروحات الوردي.
أما اليوم، فإن الشخصية العراقية قد تشظت وتحوّلت إلى شخصيات، وهذا الفرد العراقي قد انكفأ على نفسه وبات يحاول تأمين حياته فلا وقت يخصّصه لتحليل شخصيته.
في مثال آخر، كان مشروعه الأضخم لكتابة تاريخ العراق الحديث، متفاوت الجودة، حيث أن ما حاز إجماع القراء هو حديثه عن الحقبة العثمانية، ليخفت هذا الإجماع كلما اقترب من الأزمنة الحديثة ويفهم على أنه إحجام على ممارسة دور المؤرخ بحيادية. لقد كانت نظرته إلى الأمور محكومة بنظريات تآكلت بمرور العقود حتى قيل عنه بأنه "مؤرخ كبير وعالم اجتماع سيء".
غياب الوردي يمكن تعليله أيضاً بأنه كتب بكثرة من دون أن يتبع منهجية واضحة يمكن أن تنتقل بين الأجيال، كما ظل منفصلاً عن الواقع اليومي مؤثراً ذلك التداخل بين العلوم الذي كان يعجب قراء عصره.
بالتالي، فقد كتب للزمن الذي عاش فيه. كتب ليمسّ معظم قضايا عصره وسقط غالباً في استسهال الوصول إلى نتيجة، وهو في ذلك جزء من جيل كان الكاتب المصري محمود عباس العقّاد يمثل نموذجه الأعلى.
إن الأفكار التي سحر بها مجايليه، ما عاد بإمكانها أن تهز اللاحقين رغم طرافتها، لأنها ببساطة لم تتأصّل. أفكار لا تخلو من جدة وطرافة كقوله "عقل الإنسان ليس جهازاً فطريّاً، والسفسطة خير من خزعبلات أرسطو" أو سخريته الذكية من قصة "حي بن يقظان" واعتباره الشعر العربي القديم "بيداغوجيا التسلّط السياسي".
كان المفكر العراقي، بلا شك، ناجحاً في بث أفكار جيدة وبناء سلاسل محكمة منها. وينبغي علينا ألا نلومه وحده في عدم استمرارها الزمني، فالحال أن ما حوله لم يكن قابلاً لالتقاط فكره ومعاملته بشكل سليم، ومنها حديثه عن إشكاليات العلوم الانسانية وحدودها.
هكذا صنع الوردي تناقضه الذي يعيش فيه اليوم؛ بعضهم يسميه بـ"العلامة"، وآخرون يعتبرون أن مدة صلوحية أفكاره قد انتهت، ومنهم من يرى بأنه صناعة مضخّمة من صناعات زمن البعث.
غير أن كل هذه التصوّرات حوله يمكننا إعادتها إلى بذور في مشروعه، كما أنها تعود إلى الطريقة التي تطوّر بها المجتمع العربي والتي لم تخطر ببال الوردي، ولم تكن لتخطر على بال أي دارس.