حتى وقت قريب، ارتبطت الدراسات الأنثربولوجية بمعاينة أو تفحّص الغرب لمجتمعات اعتبرها نائية بحكم موقعه هو من العالم، ثم بحكم اختلافه معها في العادات والتقاليد، ثم ألبس جزءاً كبيراً منها تسمية البدائية، على اعتبار أنها لم تعرف بعد الحياة "العصرية"؛ أي النمط الذي يعيشه الغرب. خلال العقود الماضية، راجع الأنثروبولوجيون الكثير من هذه المقولات وبدأوا في مقاربة قضايا وظواهر باتت تخصّ العالم كلّه بالفعل، بل إن الكثير من الأبحاث جعلت من أوروبا والولايات المتّحدة مجال دراستها؛ متطرّقةً إلى أنماط الاستهلاك وتغيّر المناخ ومأزق الوطنية فيهما.
"كيف تفكر كأنثروبولوجي" عنوان النسخة العربية من كتاب الباحث الأميركي ماثيو أنجيلكه الذي صدر حديثاً عن "الشبكة العربية للأبحاث والنشر" بترجمة عومرية سلطاني، وهو يتناول هذه التحوّلات التي عرفتها الأنثروبولوجيا؛ إذ يضمّ العمل، الذي صدر أوّل مرّة في 2017، قراءات في الثقافة والحضارة والقيم والقرابة والهوية والسلطة والعقل والطبيعة، باستخدام مجموعة واسعة من الأعمال الإثنوغرافية والأدوات النظرية المستحدثة.
يرى المؤلّف أن الأنثروبولوجيا تهدف إلى "جعل المألوف غريباً والغريب مألوفاً"، ويحاجج في تقديمه بأن "علم الإنسان" أصبح اليوم واحداً من أكثر العلوم وعياً بالذات وانعكاساً لها، وأنّ وصف الأنثروبولوجيا كـ دراسة للآخر هو مفهوم خاطئ، لكنه ظلّ شائعاً على الرغم من كونه لا يكاد يعبّر عن صورة دقيقة عن حال هذا الحقل المعرفي اليوم، مشيراً هنا إلى أنّ الإثنوغرافيا المطبقة على بعض أنماط الحياة البدوية قد تقلب الافتراضات الكامنة وراء المفاهيم الغربية الحديثة للعقلانية.
وحول قراءته للثقافة، يوضّح أنجليكه أن الأنثروبولوجيا تعلّمنا أن نتساءل عن وجهة نظرنا في العالم، وأن نفكّر بشكل أعمق حول ما نعتبرها غالباً أموراً مفروغاً منها، حيث يجب التذكير بأن أنماط تفكيرنا أو وجودنا في العالم موجودة جنباً إلى جنب مع أفكار مغايرة تشكّل بدائل بالنسبة إلى الكثيرين.
يتساءل المؤلّف، أيضاً، عن مفردة الحضارة التي لا يزال السياسيّون والنقّاد والصحافيّون وجماعات الضغط يستحضرونها بشكل دائم، لافتاً إلى أنه مفهوم مركّب جداً ويتشكّل عبر تاريخ من "التطوّر الاجتماعي"، ما يتطلّب منظوراً طويل الأمد لدراسته في الأنثروبولوجيا، خلافاً لتوظيفها في الماضي، باعتبارها خادماً للتوسّع الاستعماري وسلطة تفوّق الرجل الأبيض.
يرفض الباحث الأميركي هنا التعامل مع الأنثروبولوجيا كأداة بحثية كولونيالية يدرس بها الباحث الغربي "المتحضّر" المجتمعات "المتخلّفة والبدائية والتقليدية"، بل يشير إلى أنّ حاجة مدن مثل لندن ونيويورك للدراسات الأنثروبولوجية لا تقلّ عن متطلّبات مدن وقبائل أفريقية.
يطرح ماثيو أنجليكه حقول بحث جديدة على الدرس الأنثروبولوجي مثل حروب "الإرهاب" التي شنّتها الولايات المتّحدة في بقاع مختلفة من العالم، ومنها العراق، وأخلاقيات زرع الأعضاء والاتجار بها التي تثير حولها سجالات واسعة لدى المشرّعين والأطباء في ثقافات مختلفة.