ذاك الصباح أخرج المصوِّر كاميرتَه من حقيبته الجلدية
وهو يَعرفُ أنه لَن يلتقط هنا مناظر طبيعية
أو مشهداً برّياً
عليه أن يلتقِط صُوَراً في هذا المكان
الذي يحتضر فيه الناس دون أن يموتوا
وأغلبهم يموتون
■ ■ ■
تَتحرَّكُ عدسة الكاميرا
ويسأَلُ الصحافي نَفسَهُ:
هل دخل الأطفال الذين لا يُشبهون الأطفال
عَدَسة الكاميرا؟
هل اقتَصَّت منهم الحرب، والتهجير بما فيه الكِفاية
لِتُلتَقَطَ لهم صورة؟
هل يَبدون مُتَّسخين بما فيه الكفاية
وجائعين؟
هل صاروا أطفالاً لا يُشبهون أطفالاً جديرين بالحياة،
هل تبَخّر حُلمهم بامتلاك درّاجات هوائية
وأقلام مُلوّنة وكرّاسات
وحقائب
هل دَخل الأطفال الذين لا يحتفلون بِأعيادِ ميلادهم عدسة الكاميرا؟
هل دَخل الأطفال الذين يَخمِشون وجوه بعضهم وهم يضحكون
عدسة الكاميرا؟
هل دخل الذين لا يُحِبّهم أحد
عدسة الكاميرا؟
هل دخلوا جميعاً؟ لِينطلق الضوء
كما تَنطَلِق رصاصة من فوهة مُسدَّس
هكذا سَمِعت مدير القسم الصحافي يقول:
أي شيء يدخل عدسة الكاميرا
يجب أن يكون مُروِّعاً،
أي شيء يَدخل إلى كاميراتكم يجب أن يكون:
بِعكسِ الحُب والرسم والمسرح ورقصة الباليه
بِعكس استفاقة الصباح في فصلِ الرّبيع واستدارة القمر
بِعكس أولادكم الجميلين بخدودهم الحُمرٍ وعيونهم الزُرق
أي شيء يَدخل إلى كاميراتكم يجب أن يكون
مُنفِّراً، شيئاً يضرب العقل وَيُمَزِّق شبكة العين
■ ■ ■
زُملائي الصحافيين
هل تَتَذكّرون ذلك الشرطي قاتم الوجه
الذي حَمَلَ رضيعاً لَفَظُهُ البَحرُ
كما يحمِلُ الله الجَنّة على راحَتيه؟
هذه هي الصورة التي أبحث عنها
لا حاجة للمصَوِّر المُحترف في أن يُسرع
لالتقاط صورة
يَخرجُ طفلٌ رَمته موجَةٌ رمادية مَيِّتاً
ويقول للمُصَوّر:
خُذ وَقتَك لالتِقاط صورة لي ولَكُم
لا تَتَسَرَّع
ستظَل جُثَّتي هنا حتى الصباح
تقول الجُثة للمُصَوِّر:
خُذ صورةً للموت من أَيِّ زاوِية شِئت
دَقِّق جَيّداً، هذه فُرصَتُك للنجاح
لا تَنسَ أن تأخُذ صورة لِتِلك الموجة
التي تصل إلى شاطئ البحر كَشَهقة الموت الأخيرة
■ ■ ■
تصوّروا لِلحظة زملائي الصّحافيين هذه الصورة
الرائعة، التي التقطها أَحَدُ الصَّحافيين لأحد ملاجئ الحدود
في تكساس
فتاة صغيرة تمشي على مُنحَدَرٍ واطئ مُخصَّصٍ للمعوقين،
وهي تَسحَبُ دمية من عُنُقِها
وبيدها الأخرى تَجُرُّ ما يُشبه جثة دُميَةٍ أُخرى ميِّتة،
هذه هي الصورة التي أبحث عنها
أمّا صُوَرُ أطفال جائعين في بومباي
أو أطفال مشردين في نيكاراغوا،
أو قُطّاع طُرق في أي عاصمة عربية
فهي صُوَرٌ مألوفة
أريد صورة لشارِعُ يُشبِهُ الموتى
والموتى فيه لا يُشبهون أحداً
هذه فقط اقتراحات
التقطوا صورة جميلة
صُوراً نَشتَمُّ فيها مَوتَنا جميعاً
■ ■ ■
دَعوني أسألكم:
عندما تَستفيقون في الصباح، هل تَهرَعون
إلى فَتح أبوابكم ونوافذكم لِتستَنشقوا الهواء؟
بطبيعة الحال أنتم لا تَفعلون هذا،
أمّا آخرون فَيفعَلون
قال لي أحد المهاجرين الذين التقيتهم في الكنيسة الكاثوليكية
أن هناك أناسا فعلاً يَستنشِقون الهواء ويَستَطيِبونَهُ
بنفس الطريقة التي يقول فيها أطفالنا
وهم يأكلون شوكلاطة إِنَّها لذيذة
قُلت له وأين يَحدث هذا؟ فَأجابَ
في مُدُن لم تَعُد
■ ■ ■
تصوَّروا معي أنّنا هنا في عطلة الأسبوع
نعزِمُ أصدقاءنا على حَفلِ عشاءٍ
أو نَتعشى في مطعم مع أحبائنا ونشرب نبيذا طَيّباً،
ونُفكّر في عطلة أعياد السنة وفي شراء بيت،
في حين أن أُناساً آخرين في جهات أُخرى من الكرة الأرضية،
أَعينهم مَفتوحة لا يَرمُشُ لها جَفنٌ، يُخَطِّطون للهجوم على البحر
تماماً كما يُفَكِّرُ ملاكم في الهجوم على خصمِه
هذه هي الصورة التي أبحث عنها، رجاءً لا أريد صوراً
لمهاجر يشتري مرتديلا، وخبزاً وجبنة من محلّ تِجاري في إحدى ضواحي باريس
الصورة التي أبحث عنها هي لأناس يائسين،
يركبون زَوارِقَ تُشبه زوارق ورقية ويغرقون في البحر،
تَعرِفون لو قايض أحد المهربين مُعظمهم على أحد أعضائهم
عَينا أو كِليَةً، أو أي شيئاً يَلُفُّه جِلدٌ ولَحم، لوضَعوا كُلَّ أعضائهم على الطاوِلة
كُلُّ هذا من أجلِ العيش في مُؤخرة فرنسا
■ ■ ■
دعوني أسألكم سؤالاً آخر: ما الذي يجعل شاباً في كامِلِ قِواه العقلية،
يَصُبُّ البِنزين على جسَده ويأخذ عود ثقاب،
دَقّقُوا جيّداً في تِلك الوجوه،
خذوا صوراً لهم في تِلك اللحظة
التي تسبق الموت
زُملائي تعرفون جيّداً أنّ - يُتابِع مدير القسم الصحافي-:
أجمل صورة تَأخذونها هي في الأمكنة
التي يَحتضِر فيها الناس دون أن يموتوا
وبعضُهم يموت.
* شاعر وأكاديمي مغربي مقيم في مدينة نيو أورلينز الأميركية