فصل: جَرَّةٌ غير مُطَرْبَلَة
دخل أبو علقمة النحوي سوق الجَرَّارين بالكوفة، فوقف على جَرَّار فقال: أريد جرة لا فقداءَ ولا دَبَّاء، ولا مُطَرْبَلَةَ الجوانب، ولتكن نجوية خضراء نضراء قد خفَّ محملُها وأتعبتْ صانعها، قد مستها النارُ بألسنتها، إن نقرتَها طَنَّتْ، وإن أصابتها الريح رَنَّتْ.
فرفع الجَرَّارُ رأسه إليه وقال له: النطسُ بَكُورَ الجِروانَ أحرُّ وأجكى، والدقسُ باني، والطبرُ لريٍّ شَكَّ لَكَ بِكَ.
ثم صاح: يا غلام، شَرِّج، ثم دَرِّبْ، وإلى الوالي فَقَرِّبْ. يا أيها الناس من منكم بُلي بمثل ما نحنُ فيه؟
وأنشد بيتين لأبي العباس الشيباني المعروف بثعلب:
إن شئتَ أنْ تصبح بين الورى
ما بين شَتَّامٍ ومُغْتابِ
فكن عبوساً حين تلقاهم
وكلم الناس بإعرابِ
فصل: في ذكر من قال شعراً من المغفلين
قال الجاحظ: أنشدني أحد الحمقى:
إن داءَ الحبِ سُقْمٌ ليس يهنــيـــــــــــــــه القـرارُ
ونجا من كان لا يعـ شقُ من تلك المخازي
وهذا شيء عجيب، فقافية الأول الراء، والثاني الزاي، الأولى مرفوعة والثانية مكسورة!
وحكى أحدُهم فقال: اجتمعنا ثلاثة نفر من الشعراء في قرية تدعى "طيهاثا"، فشربنا طوال اليوم، ثم قلنا: ليقل كلُّ واحد بيتَ شعرٍ في وصف يومنا، فقلت:
نلنا لذيذ العيش في طيهاثا
فقال الثاني:
لَمَّا احتثثنا القدَحَ احتثاثا
فأُرتِجَ على الثالث فقال:
امرأتي طالقٌ ثلاثا
ثم قعد يبكي على امرأته ونحن نضحك عليه.
كان لمحمد بن الحسن ابنٌ قال له:
يا أبي، قد قلت شعراً.
قال: أنشدنيه.
قال: فإن أجَدْتُ تهبُ لي جاريةً أو غلاماً؟
قال: بل أجمعُهما لك.
فأنشده:
إن الديار الألطـفـا
هيجنَ حزناً قـد عفا
أبكينني لشقـاوتـي
وجعلنَ رأسي كالقفا
فقال: يا بني، والله ما تستأهل جارية ولا غلاماً، ولكن أمك طالق مني ثلاثاً إذا ولدت مثلك.
فصل: في ذكر المغفلين من القُصَّاص
منهم (سيفويه) القاص، كان يضرب به المثل في التغفيل.
قيل لسيفويه: قد أدركتَ الناس فلماذا لا تُحَدِّثُ عنهم؟
قال: اكتبوا، حدثنا شُرَيْكٌ عن مغيرة عن إبراهيم بن عبد الله، مثله سواء.
قالوا: مثل أيش؟
قال: كذا سمعنا وكذا نحدثُ!
قال ابنُ خلف: قال عبدُ العزيز القاص: ليتَ أن الله لم يكن خلقني، وأني الساعةَ أعور!
فحكيتُ ذلك لابن غياث القاص فقال:
- بئس ما قال عبدُ العزيز، وددتُ، والله الذي لا إلا إلا هو، أن الله لم يكن خلقني، وإني الساعةَ أعمى، ومقطوع اليدين والرجلين!!
واشترى (سيفويه) لمنزله دقيقاً بالغداة، وراح عشاءً يطلب الطعام.
قالوا: لم نخبز، لم يكن عندنا حطب.
فقال: كان حرياً بكم أن تحتالوا على الأمر، فتخبزونه فطيراً بدل الخبز!
ووقف (سيفويه) وهو راكب على حمار بين المقابر، فنفر الحمار عند قبر أحدهم، فقال سيفويه لنفسه:
- ينبغي أن يكون صاحبُ هذا القبر بيطاراً!
وقرأ (سيفويه) في سورة الحاقة: ثم في سلسلة ذرعُها تسعون ذراعاً. (الصحيح هو: ثم في سلسلة ذرعُها سبعون ذراعاً).
فقيل له: فقد زدت عشرين ذراعاً.
فقال: هذه خلقت لبغاء ووصيف، وأما أنتم فيكفيكم شريط بدانق ونصف!
وقيل لسيفويه: إن اشتهى أهلُ الجنة أن يأكلوا عصيدة كيف يعملون؟
قال: يبعثُ اللهُ لهم أنهار دبس ودقيق وأرز، ويقال لهم اعملوا وكلوا واعذرونا!
وقال أبو أحمد التمار القاص: لقد عَظَّمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حق الجار حتى قال فيه قولاً أستحي- والله- أن أذكره!
وقف قاص في المدينة يقص فقال: رأى أبو هريرة في يد ابنته خاتم ذهب، فقال لها:
- يا بنية لا تتخمي بالذهب، فإنه لهب.
وبينما هو يقص إذ بدت كفه، فإذا فيها خاتم من ذهب.
قالوا له: تنهانا عن لبس الذهب وتلبسه؟
قال: أنا لست ابنة أبي هريرة!
قال أبو كعب القاص في قصصه: كان اسم الذئب الذي أكل يوسف (حَجُّونا).
قالوا له: ولكن يوسف لم يأكله الذئب.
قال: أعرف. (حَجُّون) هو اسم الذئب الذي لم يأكل يوسف!
كان عبد الأعلى بن غَمر قاصاً، فقص يوماً، فلما كاد مجلسه ينقضي قال: إن ناساً يزعمون أني لا أقرأ من القرآن شيئاً. لكنني أقرأ منه الكثير بحمد الله.
ثم قال: بسم الله الرحمن الرحيم، قل هو الله أحد..
فأُرْتِجَ عليه فقال:
من أحب أن يشهد خاتمة السورة فليحضرنا إلى مجلس فلان!!!
دخل أبو حسن السماك الواعظ على قوم يتكلمون في (أبابيل).
فقال: في أي شيء أنتم؟
قالوا: نحن في ألِفِ (أبابيل) هل هو ألف وصل أو ألف قَطْع؟
قال: لا ألف وصلٍ ولا ألف قَطْع، إنما هو ألفُ سُخْط. ألا ترون أنه بلبلَ عليهم عيشهم.
فضحك القوم!
قال الجاحظ: سمعتُ قاصاً أحمق وهو يقص حديث موسى وفرعون وهو يقول: لما صار فرعون في وسط البحر في الطريق اليابس قال الله للبحر (انطبِقْ)، فما زال ينطبقُ حتى علاه الماء، فجعل فرعونُ يضرطُ مثل الجاموس، نعوذ بالله من ذلك الضراط!
وقال أحد القصاص: يا معشر الناس إن الشيطان إذا سُمِّيَ على الطعام والشراب لم يقربْهُ، فكلوا الخبزَ والأرزَّ المالح، ولا تسموا بالله، فيأكل الشيطان معكم، ثم اشربوا الماء وسموا بالله حتى تقتلوا الشيطان عطشاً!
كان أبو سالم القاص يقص يوماً، قال: يا ابن آدم، يا ابن الزانية، أما تستحي من المَلِكِ الجليل حتى تُقْدِمَ على العمل القبيح؟
وسُرِقَ بابُ منزل أبي سالم، فجاء إلى باب المسجد وقلعه.
قالوا: ما تصنع؟
قال: أقلعُ هذا البابَ فإن صاحبَه يعلمُ مَنْ قلعَ بابي!
سئل أحد الوعاظ: لِمَ لَمْ تنصرف كلمةُ (أشياء)؟
فلم يفهم ما قيل له. ثم سكت ساعة وقال: إنك تسألُ سؤال الملحدين، لأن الله يقول: لا تسألوا عن أشياءَ إن تُبْدَ لكم تسؤكم.
كتب أحدُ الأشياخ رقعة إلى أحد القُصَّاص يسأله الدعاء لامرأة حامل. فقرأ الرقعة، ثم قلبها فوجد على ظهرها صفة دواء قد كتبه طبيبٌ ما، وفيه (قنبيل) و(خشيرك) و(وافتيمون)، فظنها القاصُّ كلمات يُسأل عنها، فدعا، وجعل يقول:
يا رب قنبيل، يا رب خشيرك، ويا رب أفتيمون.. إلى أن نهى ما ذُكر.
فصل: في ذكر المغفلين من المتزهدين
عن علي التنوخي، قال:
كان عندنا بجبل اللكام رجلٌ يسمى (أبو عبد الله المزابلي)، يدخل البلد بالليل، فيتتبع المزابل، فيأخذ ما يجده، ويغسله، ويقتاتُه، ولا يعرف قوتاً غيره، أو يتوغل في الجبل فيأكل من الثمرات المباحات، وكان صالحاً مجتهداً إلا أنه كان قليل العقل.
وكان بأنطاكية موسى الزكوري، صاحب المجون، وكان له جار يغشى المزابل، فجرى بين موسى الزكوري وجاره شرٌّ، فشكاه إلى المزابلي، فلعنه في دعائه، فكان الناس يقصدونه في كل يوم جمعة، فيتكلم عليهم ويدعو، فلما سمعوه يلعن موسى الزكوري جاء الناس إلى دار الزكوري لقتله، فهرب، ونُهبتْ دارُه، فطلبته العامة فاستتر. فلما طال استتارُه قال:
إني سأحتال على المزابلي بحيلة أتخلص بها فأعينوني.
فقالوا: ماذا تريد؟
قال: أعطوني ثوباً جديداً أبيض وشيئاً من مسك وناراً وغلماناً يؤنسوني الليلةَ في هذا الجبل.
فأعطوه ما طلب. فلما كان نصف الليل صعد فوق الكهف الذي يأوي فيه أبو عبد الله المزابلي، فبخر بالند، ونفخ المسك، فدخلت الرائحة إلى كهف أبي عبد الله المزابلي. فلما اشتم المزابلي تلك الرائحة وسمع الصوت قال:
- ما لك عافاك الله؟ ومن أنت؟
قال: أنا جبريل، أرسلني ربي.
فلم يشكّ المزابلي في صدق القول، وأجهش بالبكاء والدعاء وقال: يا جبرائيلُ مَنْ أنا حتى يرسلك الله إلي؟
فقال الزكوري: الرحمن يقرئك السلام ويقول لك إن موسى الزكوري سيكون غداً رفيقك في الجنة.
فصعق أبو عبد الله، فتركه موسى ورجع.
فلما كان من الغد، كان يوم الجمعة، أقبل المزابلي يخبر الناس برسالة جبريل، ويقول:
- تمسحوا بابن الزكوري، واسألوه أن يجعلني في حِلّ، واطلبوه لي.
فأقبل الناس على دار ابن الزكوري يطلبونه ويستحلونه.