هنا، في الكويت بضعة أمكنة يعرف عدد من الأشخاص أن غسان كنفاني* مرَّ بها، أو سكن إليها في لحظات الراحة أو الكتابة أو الأمسيات الثقافية؛ حدث هذا في خمسينات القرن الماضي، أي حين كانت عدة أمكنة مثل "نادي الاستقلال الثقافي" و"نادي الخريجين" تشهد نشاطاً يتطلع خلاله المشاركون إلى ما وراء الأفق، وحين كانت جريدة "الفجر" تنشر أول قصصه القصيرة، وكذلك تفعل "الطليعة".
هذه الأمكنة الآن مجرد ذكرى تصادفها في صفحات كتاب أو جريدة عتيقة، أمكنة أحاول، أنا القادم بعد تلك الأيام وآفاقها، لمسها عبثاً. هي لا تعدو أن تكون صوراً شبحية يستثيرها هذا الذي يتذكر أن "غسان" كان هنا يجادل ويكتب ويتأمل، أو ذاك الذي سمع به ولم يدرك يوماً واحداً من أيامه ولكنه قرأه في كتاب.
هي لم تعد مجسدات، الطرق تغيّرت أو غيرت اتجاهاتها، والمباني الطينية اضمحلت وهدمت، وهبطت من مكان ما على الأرض عمائر لا تنتمي إلى الماضي، وظلال لم يمر تحتها أحد ممن نتذكرهم، ولم يبق سوى الأفق.
ليست الأرض هي التي تغيّر عاداتها فقط، بل والبشر أيضاً. يضيق المكان أو ينمحي، ويختفي بلا طريق إليه سوى كلماتنا، ويختفي البشر الذي كتب عنهم "غسان" وأثاروا شجنه حين كتب مجموعة "عالمٌ ليس لنا".
صحيح أننا نجد أشباهاً لهم الآن، في الأسواق والمقاهي والأمسيات الأدبية وعلى أسرة المستشفيات، إلا أنهم ليسوا سوى أشباه مثلما هي الكلمات.. كأننا بعد الراحلين نصغي إلى أمكنة لم تعد موجودة، وإلى أصداء لايرددها سوى الصدى.. ومرة أخرى لا يبقى لنا ولهم سوى الأفق البعيد دائماً.
* تحل اليوم الذكرى الثالثة والأربعون لاستشهاد غسان كنفاني (1936-1972)
ملف العربي الجديد عن ذكرى استشهاد غسان كنفاني العام الماضي