تظهر أحياناً في الدوريات العربية أو في وسائل التواصل الاجتماعي، صور لـنساء من الماضي العربي القريب يرتدين ملابس عصرية في وضعيات مختلفة. وأكثر من يهتم بنشر هذه الصور هنّ النساء، أو أنصارهن. فمن حيث فكرة التطوّر يمكن للملابس أن تكون مؤشراً قوياً على نظرة المرأة لنفسها، وموقف الرجل من ذلك.
ومعظم الصور التي تنشر يشير أغلبها إلى أن المجتمعات العربية كانت تسير حتى منتصف القرن العشرين بثبات وأمل نحو التقدم الحضاري والعلمي. ومن بين الصور التي رأيتها في إحدى المجلات، واحدة تظهر مجموعة من الفتيات يسرن في أحد شوارع صفد الفلسطينية في عام 1944، وهنّ يحملن حقائبهن عائدات من المدرسة. والفتيات سافرات، ويرتدين ملابس عصرية ملوّنة وتبدو عليهن سمات الفرح والانطلاق، لا الخوف والتكتّم.
ومن الصعب أن يلتقط أحد اليوم مثل هذه الصورة في المدن العربية الكبرى، لا لأن الفتيات تحجّبن وحسب، بل لأنهن لن يقابلن الكاميرا بمثل تلك الوجوه المبتسمة النضرة المقبلة على الحياة. ثمة صور أخرى لفتيات أو لنساء من دمشق، ومثلها لسيدات من مصر والعراق في الزمن نفسه تقريباً، وفي كل مرة يشار إلى أنهن جامعيات أو عاملات في أحد الحقول المنتجة.
ويحفظ التاريخ الشعبي لسورية أن النساء سجّلن حضورهن في نهضتها الثقافية منذ عشرينيات القرن العشرين في أكثر من نادٍ وجمعية، ومنها المجلس الأدبي، وجمعية نقطة الحليب، ودوحة الأدب، وخرّيجات دور المعلمين، والنادي الأدبي النسائي.
وسبق أن شهدت مصر مظاهرات لنساء في بداية القرن العشرين، كتب عنهن حافظ إبراهيم يقول: "خرج الغواني يحتججن ورحت أرقب جمعهنه/ يمشين في كنف الوقار وقد أبنَّ شعورهنّه". ومن الصعب المرور بهذه الأبيات دون أن نلاحظ إشارة الشاعر الأخيرة إلى السفور كمضمون له. وقد استمر ذلك طويلاً بحيث قال الراوي في "شقة الحرية" لغازي القصيبي "أما في القاهرة ـ منتصف الخمسينات - فكل البنات سافرات".
ولا يماري من يضع الصور في الرغبة بالمقارنة بين صور نساء الماضي السافرات ونساء الحاضر المخفيات وراء الحجاب. وثمّة من يستخدم المقارنة للتفكّه والمزاح، ولكنها في نهاية الأمر تعني مسائل التحرّر المجتمعي كلّه، فوضع المرأة هو الكاشف الذي يؤشر إلى مستوى النضج الفكري والعقلي والنفسي الذي وصل إليه أي مجتمع من المجتمعات العربية.
وضع المرأة هو مستوى نضج الرجل (ما دمنا في مجتمعات يسيطر عليها الرجل) ونزاهته الفكرية وصدقه المبدئي، أو بالعكس هو تخلّفه وتناقضاته وكذبه الفكري. صورة المرأة هي المستوى الحضاري الذي وصل إليه أي مجتمع من حيث علاقته بالحرية والعدالة والأنوار، لا لأن المرأة نصف المجتمع أو ما شابه ذلك من العبارات التوجيهية، بل لأن حرية المرأة تعني أن المجتمع قد استطاع التخلّص من أفظع القيود والأغلال التي تكبّل نهوضه.
لم نعد نتباهى بمثل تلك الصور هذه الأيام. باتت نياشين العسكر، وفيديوهات القتلة الذين يرجمون النساء لأنهن يعشقن هي التي تزيّن الصحف وشاشات الفضاء.