لم ينخرط عبد الرحمن الأبنودي، في مشروع شخصي بقدر ما انخرط بجمع السيرة الهلالية. لقد أنفق عشرين عاماً يقاوم طمرها في الرمل، وهو يرى الزمن يدفن الشعراء والرواة واحداً بعد الآخر دون أن يرى ورثة. كان في ذلك نموذجاً للشاعر بالمعنى الحضاري القديم؛ يرى دوره في تقديم إضافة ما في عمل جماعي تتوارثه الأجيال، لا أن يسجّل اسمه بشكل فردي.
ذهب الأبنودي إلى السودان يتقصّى خبر بني هلال، وأنشأ متعاونين في الشام وتونس، وتتبّع أثر بعض المقاطع في التشاد ونيجيريا. انتصر لقضية "الشاعر الشعبي الأمي" وحاول أن يفرض روايته للسيرة على حساب الرواية التاريخية التي بدأت تنتشر بظهور فئة "الباحثين الأكاديميين" وهم يطبقون النظريات الأوروبية المحشوّة بالاستشراق على تاريخهم الأهلي.
في تونس مثلاً، كانت "السيرة الهلالية" كما جمعها الأبنودي أول مواجهة موثقة لرواية التاريخ الرسمية، التي جعلت من بني هلال بدواً جاءوا من الشرق لتخريب تونس زمن حكم الصنهاجيين في القرن الخامس هجري، في إطار رؤية تغريبية كانت تتبناها الدولة.
جعل الأبنودي من محاولته في جمع السيرة، لا قصة أبطال بني هلال فحسب، وإنما قصة شعرائها ورواتها وهم يضيفون بيتاً أو يشذّبون عبارة، مبيّناً تصنيفاتهم. لقد أحب الرؤية القبلية التي تفيض من السيرة، حيث يكون الإنسان حلقة في ذاكرة جماعية.
لقد أسعفه موقعه في الحياة الثقافية المصرية، بحكم شهرته وعلاقاته، كي ينجز مشروع العقدين من الزمن ويجسّده في خماسية. وبذلك أرضى نفسه بالمساهمة في "الحفاظ على الإنجاز العبقري لشعبنا العظيم"، أو أن يكون جامعاً للسيرة لا عن طريق استحضارها بالربابة وإنما بنشرها على ورق وتوثيقها.
كان يقول بأنه عاش "مع الخوف من الموت قبل الإبلاغ بما يعرف"، وبعد ذلك كتب أن "الجمهور هو الحارس الأول للسيرة". ذلك الجمهور الذي يفضّل أن يستمع إلى الأبنودي يقصّ بلهجته الصعيدية المحببة أخبار هذه العوالم التي أصبحت نصف مطفأة في الذاكرة الجماعية، أو يحب الأبنودي القريب من عصره وهو يكتب لهم أغاني "عدّى النهار" أو "مهما خذتني المدن" أو "الهوى هوايا"، أو وهو يحدثهم عن "الموت على الأسفلت" أو عن "الاستعمار العربي".