منذ أكثر من أسبوع وأنا أحاول الكتابة عن حسين البرغوثي (تحل اليوم ذكرى رحيله الثالثة عشرة). كوّمت أمامي كل كتبه ورزمة مقالاته. ولم أستطع. أبقيتها وقتاً طويلاً أمامي، لا أنا قادر على فض خوفي منها، ولا على إعادتها إلى الأدراج.
تلبستني حالة تشبه رهاب الذكريات، كنت خائفاً من شيء ما، شيء لا أفهمه. بشكل غير مبرر وغير مفهوم. إذ ما الذي يدفع شخصاً مثلي؛ لم يلتق بحسين في حياته أبداً أن يرتبك أمام ذكريات لم تكن سوى قراءات مندهشة لنصوص متقطعة القدوم حينها؟
بدأت القصة كلها، في ليلة من ليالي صيف رام الله من العام 2001 الملتهبة بالنار والاحتلال والاشتباكات. عزمت نفسي يومها على منزل خال لي يسكن في مدينة رام الله، أعياهم القصف في منطقتهم المحاذية لمستوطنة "بساغوت" المطلة على مدينة البيرة، فقرروا الانتقال إلى عمق رام الله، البعيد عن مرمى النار والقصف العشوائي.
ما إن وصلت بيتهم حتى وجدتهم في فوضى تنقيل أثاث المنزل، عركة لا أول لها ولا آخر. وجدت نفسي غير قادر على الاعتذار عن المساعدة ولا على فعل أي شيء سوى الانخراط في العمل. غرقت في فوضى نقل الأثاث حتى المساء، مما اضطرني لاحقاً إلى المبيت في رام الله نظراً لانقطاع الطريق الواصل بين الأخيرة وبيرزيت حيث أسكن وأدرس.
في رام الله، وحين تنقطع بك السبل، لا تجد صعوبة في إيجاد مبيت عند اصدقائك المبعثرين في أحيائها، عليك فقط أن تأخذ عنوان المسكن لتتوجه إليه مباشرة. ثم تقضي الليلة بأقل الخسائر الممكنة. الانتفاضة الثانية، قرّبت الناس كثيراً، وكثفت فعل التضامن بينهم بشكل ملحوظ وكبير.
بت ليلتها في منزل أصدقاء جامعيين، انكب واحد منهم على قراءة أوراق مجمعة، طلب مني القراءة معه، كانت الأوراق عبارة عن النسخة الأولى من سيرة حسين برغوثي "الضوء الأزرق"، نسخة ما قبل النشر، وزعها حسين على بعض أصدقائه المقربين لقراءتها، فوقعت بين يديّ مصادفة.
لم أكن قد سمعت بحسين البرغوثي من قبل، ولا أعرف من هو، ما أذكره، هو أنني قرأت في تلك الليلة حوالي ثمانين صفحة، صفحة تلو الأخرى، ولولا بزوغ شمس، لما توقفت عن قراءة السيرة حتى إنهائها.
أدب السيرة، أدب جميل ولكن يؤخذ عليه التكلف أحياناً، إذ لا بد للكاتب أن ينفخ أحداثاً عادية ليتمكن من إدراجها في السيرة. عند حسين كانت السيرة كلها أحداثاً صغيرة وهامشية في حياة شخص عاش ظلال الهامش، ثم أعاد إنتاجه كمعاينة مجهرية ورافعة للوعي. الهامش المؤسس للوعي العميق.
هذه ملاحظة انطباعية كان لابد لها من إعادة تشكل وتشكيل، وهو ما حدث لاحقاً في جملة القراءات المتتالية لأعماله، من "الرؤيا" مروراً "بمرايا سائلة" وانتهاء بـ "سأكون بين اللوز".
أن تخوض تجربة القراءة للبرغوثي يعني أن تتحلى بعقل يشبه شباك صيد ذكية، تصطاد التفاصيل المراوغة التي تتحرك بسرعة مثل أسماك صغيرة، لا بديهيات في الصفحات التي تقلبها، كل شيء عائم، ويفعل فعل المكنسة.
كنت مرة في نقاش مع مدرس من مدرسي دائرة علم الاجتماع في الجامعة، ودار بيننا حوار حول قضيتين، الأولى حول الفهم، والثانية حول كيف يفعل كتاب، رواية، قصيدة فعل صياغة الوعي للفرد.
قلنا يومها أن الفهم معضلة الوعي ولونه الغائب الحاضر، إذ كان السؤال المؤسس للنقاش كله يتمدد حول: هل يُشترط الفهم في التعامل مع النصوص الأدبية الجميلة لاحتوائها وتذوقها وهضمها وامتلاكها؟ إذ إن الفهم مرات يقتضي التسلل إلى عقل الكاتب الغائب فيزيائيا عنك لحظة القراءة.
كان نص "حجر الورد" للبرغوثي موضوع النقاش، وهو نص معقد وتصعب السيطرة على تفاصيله. خلص الأستاذ إلى نتيجة مريحة: "التذوق مفتاح الفهم"، إذ لا يمكنك فهم نص لا تستطيع تذوقه، عدت إلى نص البرغوثي بعدها وقرأته مرة أخرى، بمذاق مختلف هذه المرة.
قال لي المدرّس يومها، إن رواية "راما والتنين" للكاتب المصري إدوار الخراط، قد أحدثت عنده فلتة وعي مختلفة، أعادت تشكيل وتركيب وعيّه، لسبب لا يعرفه إلا هو، قال يومها "وقعت في غرام الرواية، كانت بمثابة الأحجار التي تسد بها ثقوب الحائط، كان عقلي مليئاً بالثقوب والأفكار المشتتة"، أجبته "هذا ما فعله البرغوثي في "الضوء الأزرق"، كنت أحتاجه، فوجدته".
"ولما سألتُ عن لماذا اختارَ الفراعنةُ خيالاً حجرياً ضخماً، قال "حُبّاً في الثباتِ، أو إرادةً لتصوُّرِ الوجودِ، أو تحضيراً للخلودِ في العالمِ السفليّْ، كانوا على كل حالٍ يحبّونَ كسرَ مقاومةِ الكتلة". وسألتُ وأنتْ؟ ماذا تحبُّ؟ فقالَ: هناكَ لوحةٌ عند عَبَدَةِ النارِ في فارسَ ، النارُ مرسومةٌ على جدارِ الليلِ حتى لتحسِبَها حِبْراً أحمرَ، ثباتٌ مخيفٌ في الحبرِ يوحي بحركةٍ مخيفةٍ في النار" (حجر الورد).
في حياته، أو قبل رحيله بقليل، كنت قد اتفقت مع صديق مشترك أن يرتب لنا لقاء معه. كان ذلك في نيسان عام 2002. تفشى المرض الخبيث في جسده، وكانت كل الإشارات القادمة من المشفى تقول إن حالته الصحية في تراجع متواصل. حاولت مغالبة الزمان. دخلت في سباق محموم مع كل شيء. نجحنا في ترتيب موعد، لكن الموت حينها ومثل كل الأحيان؛ غلبنا وغلبه.
ملف العربي الجديد عن حسين البرغوثي العام الماضي