هذه الاستعادات التي تفوح منها رائحة تصدير النبرة الوطنية - أو إعادة تدويرها بالأحرى - تعدّ في حدّ ذاتها مناسبة حميدة ليقف المرء أمام إشكاليات في حياة شخصيات جرى تكريسها كرموز، ليس من جانب المتلقي أو الجماعة الفنية، وإنما من جانب السلطة بالخصوص. لا ينفي ذلك أن شخصية فنية كشخصية الجزار تستحق الإضاءة والاستعادة، لكن الاختلاف يتعلّق هنا بالزاوية، وإلى أي قدر يتم تسليط الضوء على عمل فني لخدمة موقف سياسي، وتكاد تُطفأ كل الأنوار على باقي منجزاته الأجدر فنياً بتسليط الضوء؟
في الدراسة الصادرة عن "الهيئة المصرية العامة للكتاب" بعنوان "الفنان عبد الهادي الجزار"، نجد عديلة عصمت وقد استعادت سيرة "الفنان" مؤرّخة بالسنوات، ونجد في العمل أمراً لافتاً للنظر وهو اعتبار أن الجزار لم يتم تكريمه في مصر إلا بعد ثورة يوليو! وأن سيل التكريمات التي انهالت عليه سواء في جائزة الدولة التشجيعية، ووسام العلوم والفنون، والجائزة القومية التشجيعية، وجائزة "الثورة بعد 10 سنوات" جميعها جاء تكريماً للوحتي "السد العالي" و"الميثاق".
تظهر لوحة "السد العالي" جسداً بشرياً ضخماً مكوّناً من مجموعة من المتاريس، هذه المتاريس تنتهي برأس كبير ينظر في عظمة إلى الأمام، الرأس ببساطة رأس وملامح جمال عبد الناصر. أما لوحة "الميثاق" فهي عبارة عن سيدة ترتدي رداءً ريفياً في إحالة مستهلكة لمصر، وتحمل كتاباً مُعَنوناً بالميثاق وتحت قدميها يجلس فلاح يقدّم في يد قطعة قطن وفي يد أخرى بعض القمح، وعلى يساره عامل يرفع للمرأة متراسه وخلفهما شيخ وقسيس يحتضنان بعضهما.
فنياً تعد هاتان اللوحتان أقل لوحات عبد الهادي الجزار فنّية، لكنهما على الجانب الآخر العملان اللذان حظيا أكثر بالجوائز التي تعبّر عن سلطة دولة يوليو. في اللوحتين ثمة الكثير من التساهل والنبرة الاستهلاكية مع وضوح للرمز والموقف السياسي وتمجيد الزعيم، وهو ما يخفي فناناً هو في الأصل مولع بالرمزية والإشارات، متيّم بالقصص الشعبية والأساطير. هكذا يتحوّل هذا التكريس إلى حيرة: هل إن الجزار فنان الشعب أم فنان السلطة أم فنان غارق في أفكاره الوجودية المؤرقة؟
لكن المؤسف أيضاً أن بقية أعمال الفنان المصري جرى تحجيمها بناء على لوحتي "السد العالي" و"الميثاق" حيث ربط نقّاد كثيرون الموتيفات الشعبية والأساطير التي تظهر في لوحات أخرى بإسقاطات سياسية، وكأن الفنان حُكم عليه بسبب لوحتين أن يظل أسير تلك النظرة الضيقة لفنّه، حتى إن عديلة عصمت في دراستها المذكورة تحلل مقاصد الجزار في لوحة "المجنون الأخضر" بالقول إنها "تجسيد للإنسان المصري في عصر ما قبل الثورة وسلبيته وعدم مقاومة الاستعمار واستغراقه في عالم بعيد عن الواقع كنوع من الهروب"، وإن لوحة "الماضي والحاضر والمستقبل" كانت تتنبأ بثورة يوليو قبل قيامها بعام، كما حللت لوحة "مجاذيب السيدة" من زاوية أن الجزار يرى المصريين في حالة من الغيبوبة والجمود والخمول والسلبية في مواجهة الحياة. وتستمر في هذه التفسيرات على باقي اللوحات بنفس زاوية النظر، لكن بصياغات مختلفة، وكأن الجزار كان يزدري في لوحاته شعباً بأكمله، حتى جاءت الثورة وأيقظته.
كأن الجزار في هذه الصورة لم يكن ذلك الشاب اليافع في بداية العشرينيات من عمره يرسم لوحة "الكورس االشعبي" التي تظهر فيها ثماني سيدات وطفلة يقفن حفاة مكتوفات الأيدي مع نظرات جائعة وأمام كل سيدة طبق فارغ في انتظار من يضع لهن طعام، مذيّلاً لوحته بعبارة "هؤلاء رعاياك يا مولاي" ويتعرّض بسبب ذلك لمصادرة لوحته وإلغاء معرضه وحبسه لمدة شهر بأمر من الملك فاروق.
ننسى أيضاً أن عبد الهادي الجزار حاول أن يكون في بعض لوحاته متحرّراً من قيود الانحياز، ففي لوحته "القيد والزمن" نجد أمامنا لوحة لفنان طليعي متحرّر من قيود الجماهير والسلطة، يجلس على كرسيه مقيداً وبجواره وحش يجلس على ساعة متكسرة، وهي اللوحة التي رسمها عبد الهادي الجزار عام 1964، ورحل بعدها بعامين.