أسكن في بناية قديمة من ثلاثة طوابق، يسكنها الفنّانون. لم يكن يهمّني نوع الأشخاص الذين سأُجاورهم، لكن أن تسكن في عمارة الفنّانين هذه، يعني أنك ستحصل على الحصانة من كلام الجيران وعيون المتطفّلين؛ فصاحب البناية - على غير السائد - لم تكن لديه مشكلة في تأجير الشقق لغير المتزوّجين.
يوم وصلتُ هذه المدينة كنتُ أبحث عن مكان لأنام فيه دون أن أضع شروطاً حول نوع السكن الذي أريده. رغم ذلك لم يكن سهلاً أن تستأجر شقّةً وأنت أعزب، فالناس يخافون العزّاب، ولم يبق لي سوى عمارة الفنّانين، فهؤلاء كما هو معروف لهم حياتهم الخاصة المنفتحة، ولا يشير هذا بالضرورة إلى أعمال مخلّة بالشرف.
المشكلة أن البناية لم يعد فيها أحد من أولئك الفنّانين، كلهم غادروا وتركوا أماكنهم، مع تقادم الأيام. لذا وقع ثقل هذا الاسم على كاهلي، يعاملني الجميع هنا على أنني فنّان، لم يكن ذلك لما تركته من انطباع عندهم، لكن لأنني لا أذهب إلى العمل عند الصباح مثل الباقين، فما الذي يبرّر ذلك غير ذريعة الفن، فلو سألت أيّ واحد منهم، لماذا يسكن جاركم الفنّان وحيداً؟ سيجيبك دون تردد: لأنه يكرّس جل وقته للفن.
ولو حاولت في المرّة الثانية أن تسأل على ماذا يضيع وقته فنّانكم هذا؟ سيجيبك: على شيء فنّي حتماً.
في المطعم الصغير قرب البناية، آكل وجبتي كلّ يوم، ومنذُ أن وصلت إلى هنا قبل سنتَين من الآن لم يحدث أن فتحت حواراً مع أحد، أو اضطررتُ للحديث معهم. أحرص دائماً على رمي أنظاري بعيداً عن أعينهم، حتى لا أضطر لقول شيء، أو أن أُلقي التحية على أحد.
حتى ذلك اليوم، حين وصل طبقي المفضّل، طبق الرز مع ملفوف الباذنجان، سمعتُ صوت خِلّات خليل في التلفاز، بدأ برنامج البرج العالي إذن، قلتُ لنفسي من دون أن أُفكّر في مشاهدة وجه خِلّات، هذا الخِلّات يبدو كأنه مسيحي، فللمسيحيّين العراقيين وجه واحد مدوّر، ودائماً ما يكون محاطاً بهالة نور صفراء، قد يكونون هكذا فعلاً أو أني الوحيد الذي يراهم على هذا النحو.
بدأ خِلّات برنامجه بتحية الجمهور، واستقبال أول اتصال هاتفي مع شخص اسمه سمير الظفيري، عمره 42 عاماً ويسأل عن فُرصِه في الارتباط.
تبدأ الحكاية هنا عندما سأله خِلّات عن ساعة ولادته. سمير الذي نسي أن يستعد لهذا السؤال مسبقاً، نسي أيضاً أن سمّاعة الهاتف كانت قريبة من فمه أكثر من قربه لوالدته، التي كانت تستعد للصلاة في الغرفة المجاورة، وبصوت عال ملأ الهاتف:
- حجية، يا ساعة جيت للدنيا آني؟ (كان ذلك على الهواء مباشرةً).
ما إن انتهى من جملته هذه حتى اندفعت ضحكة مدوّية من جوفي إلى حلقي، حاولت أن أكبتها لكنها انفجرت في الهواء، لتجذب أنظارهم نحوي.
هذه الضحكة كانت القشّة التي قصمت ظهري وظهر أجدادي، تركت لهم أن يروني بغير عادتي، حيث مثّلت طيلة تلك السنين أنني فنّان غامض، لن يترك الفرصة لأحد بأن يشاطره الحديث أو أن يستفسر عن حياته.
ابتسم لضحكتي صاحب المطعم ثم قال: أخبرني ما الذي قاله لتضحك، لم أسمع؟
صار من المحرج جدّاً أن أعود لوجه الفنّان العبوس، فاضطررت لأن أُعيد عليه سرد الحكاية، ما دعاه لأن يقتنص فرصة لطرح سؤال آخر، ذلك السؤال الذي كان يود هو وغيره معرفة إجابته.
قال: صُدُك أستاذ.. شنو الفن اللي تسوّيه حضرتك؟
لم يكن سؤاله مفاجئاً، فقد تحسّست قربه منّي منذُ أن أخطأت بضحكتي تلك. خَفَتَ صوت الجموع وكأنهم وجّهوا نحوي إضاءة تصوير مثل تلك التي نشاهدها في برامج المواهب، وانتظروا إجابتي.
عدت لأُحدّق بصحن الرز وقلت: أكتب الشعر.
ثم أضفت: ليس الشعر الذي تعرفون. أنا أكتب قصيدة من نوع آخر.
سأل الرجل السمين في الطاولة البعيدة: أيّ نوع من القصيدة؟
قلت: الهايكو.
- أسمعنا إذن. قالوا.
قلت: الكلب يركض وراء عصى.
أتظاهر برميها*.
ومن لحظتها وأنا أبحث عن شقّة أُخرى للإيجار.
* القصيدة لشاعر لا أعرف اسمه
** كاتب من العراق