أثارَ الصحافيّ والمسرحيّ المصري يعقوب صنّوع (1839-1912) من الجَدل ما أفضى إلى إنكار وجوده أصلاً، مع أنه خَلَّف آثارًا مكتوبة تدحض هذا الإنكار، وأنشأ، في تاريخ الصحافة العربية، من أجناس القول ما تزال إلى اليوم شواهدُهُ قائِمة. فقد تَرك الرّجل مئات المقالات في شتى صنوف القول النقديّ، عدا ترجماتٍ ومسرحياتٍ وسِيَر أعلامٍ. وحتى يكون درْسنا لأعماله مركزاً، آثرنا الاقتصارَ على نصوصه الصحافيّة تاركين جانباً، ولأسبابٍ منهجية صِرفة، كتاباتِه المسرحيَّة التي تقتضي مقاربة مغايرةً.
وتجدر الإشارة بدءاً إلى أنَّ صنّوع أصدر، طيلةَ مسيرته، ثمانيَ صُحفٍ، حيث امتدَّ نشاطُه من سنة 1860 حتى 1910، أيْ قبيْل سَنَتَيْن من وفاته. مما يؤكد أنّ المقالَ الصّحافي، أسلوباً في التعبير، استأثر بنَصيب الأسد من أعماله، في تلك الحقبة النشطة من إنجازات القَلَم، التي أجاد في وصفها فيليب دي طرازي في "تاريخ الصحافة العربية".
ويمكن تصنيف الجرائد التي أنشأها صاحبُ "أبو نظّارة" إلى فِئتَيْن كبيرتيْن: من جهة أولى، ثمةَ الصُّحف "الجادَّة" التي التزمت السجلَّ الفصيح وتناولت المحاورات الرصينة، ومنها "الوَطنُ المصري" التي صدر عددها الأول سنة 1883، وكان موضوعُها نقد الاحتلال البريطاني لمصر وما بدأ يقترفه في حق البَلد شعباً ودولةً. ومنها جريدة "التَّوَدُّد"، التي صدرت في آذار/ مارس 1902، وكان الهدف منه تسجيلَ "سيرِ الأمراء والزُّعماء والملوك في الدول المختلفة"، فضلاً عن مهاجمة جرائم الاحتلال الإنكليزي التي ارتَكبها بحق المستعمراتِ المطالبة باستقلالها.
وضمن هذه الفئة أيضاً، صحيفة "العَالَم الإسْلامي" الصادرة باللغة الفرنسيّة، وهي تهتم بأخبار العالمَيْن العربي والإسلامي. وقد عُنيت، في أعدادها القليلة، بالتعريف بالجوانب الحضارية للإسلام والمسلمين، إذ كان الرّجل مُتقنًا للعديد من اللغات الأجنبية، مُتضلِّعاً من التراث الروحي والأدبي للديانات التوحيدية الثلاث. وهناك أخيراً "الـمُنْصِفُ"، والتي ابتدأ صدورها في شباط/ فبراير 1899، وهي "جريدة سياسية أدبيّة تجاريّة"، كما كانت جلُّ صحف ذلك العصر، وقد سخَّرها للتشنيع بفظاعات الإنكليز في مصر وفي غيرها من المستعمرات والحثّ على مقاومتهم، فضلاً عن انتقاد نظام الخديوي، الذي اتخذ سياسة المهادنة حفاظاً على مَصالح القصر وامتيازاتِ رجالاته.
وأما الفئة الثانية من هذه الصحف فهي الجرائد الساخرة التي تتوسّل الإضحاكَ في سبيل النقد الاجتماعي وبيان مواطن العلّة في النظام السياسي عموماً. وقد أبدع صَنّوع في توظيف أسلوبٍ جَذِلٍ، ضاحِكٍ، مُضحكٍ، يسخر من تهافت القيم وتواكل المصريين الذين لم يَعوا ما طرأ على التاريخ من تحولات الحداثة، فظلوا يَعيشون خارج الزَّمن ومفاهيمه السياسية والمعرفية.
وفي هذا القسم الساخر، نجد "رحلة أبي نَظَّارة زَرْقا"، التي صدر العدد الأول منها سنة 1879، وهي تتضمن مُحاورات ساخرة ومناقشاتٍ ضاحكة تنتقد سياسات الخديوي وحكوماته الجائرة. ثم "النظَّارات الـمِصرية"، التي ظهرت في نفس السنة وخُصِّصت للكتابات المسرحية التي كان يؤلفها ويُخرجها قبل هجرته إلى فرنسا. تُضاف إليهما صحيفة "أبو صَفَّارَة"، التي صدرت في حزيران/ يونيو 1880، وكذلك "أبو نظارة"، وكانت هذه الأخيرة لسانَ حال الأمة المصرية الحرَّة، وتميزت بوجود الرسوم الكاريكاتورية.
ولا يخفى أنَّ تغيير أسماء الصحف لم يكن سوى حيلة لتجنب الرّقابة والفرار من القيود التي تمارسها عليْه سلطاتُ البلاد والاستعمار حين أمعن في انتقادها بشكلٍ ساخر وأظهر استبدادَها الكريه. ولا يخفى أيضاً أنَّ هذا التقسيم توضيحيٌّ ليس إلا. فمقالات صنّوع الصحافية، أكانت إعلاميةً، أو ساخرة أو فكرية، تهدف إلى نقد مظاهر الاستبداد والتهكم من الاستعمار الغربي الذي لم يترك حيلةً إلا وظفها في سبيل تبرير نَهبه لخيرات البلاد. كما طاولت دعابته فئات البرجوازية التي اغترّت بأراجيف الغرب، فصارت تُقلده في نمط العيش والتعبير والتفكير.
وهكذا كان التهكم سلاحاً ماضياً، أراد من خلاله التنصيص على مواطن الوهن والاعتلال، باتباع "خطٍّ تحريريّ" واحدٍ هو تحرير اللغة من عِقال البلاغة القديمة حتى تكون أقرب إلى هموم الناس، تُخاطب عُقولهم وتداعب منهم الوجدان، وتُحيل على ما يعانونه من ماديّ المشاكل، لا على ما يُؤرق النخبةَ من مَاوَرَائِيِّ الـمُعضلات. ولهذا، التزم صنّوع، في أسلوبه، ازدواجيَّةَ اللغة ومَزج بين الصيغة الأدبيَّة الراقية واللهجة المصرية في سجلَّاتِها العامية، وحتى السّوقية، من أجل التأثير في أوسع عددٍ من الجماهير والوصول إلى حساسيتهم.
كما كان يضمّن كتاباته النثريَّة العديدَ من المقطوعات الشعرية والزَّجَليَّة التي تعوَّد على إنشائها بفضل تجربته الكبيرة في صياغة المسرحيات الغنائية، مع التمسك بنزعة واقعيَّة، مَكَّنته من الالتصاق بِمشاغل الناس اليومية وقضاياهم الراهنة، إذ كانت اللوحات التي يرسمها في مقالاته مُشتقَّة من حياة الفلاحين وسكان الأرياف، فضلاً عن الأغنياء الجدد من ساكنة المدن.
ومن جهة أخرى، عمل صاحب "أبو نظارات" على النقل الساخر "للغة المحكية"، بل على اصطناعِها وتضخيم ملامحها، وهي سِجِلٌّ يغاير اللهجة الدارجة، وفنٌّ، من فنون السخرية، دقيقٌ يقوم على محاكاة دقائق الخصائص الصوتية والمعجمية التي تميز طبقةً اجتماعيةً ما. وقد اشتهرت في اللسانيات الغربية باسم "sociolecte" بمعنى: "اللهجة المحكية التي تميز فئةً من الناس وتعكس طريقة رؤيتهم للوجود". فعلى سبيل المثال، سخِر صنّوع من كلام النوبيين، في مصر القرن التاسع عشر، وجَعل من محادثاتهم وطريقة نُطقهم مَصدر دعابةٍ، مثل تحويل: "يا الله! روح" إلى "ياللا روه". وكذلك الشأن بالنسبة إلى فئة "الأثرياء الجدد"، المتأثرين بالثقافة الفرنسية، الذين صاروا يُقحمون طيَّ مُحادثاتهم اليومية سَيْلاً من الكلمات الأجنبية لإظهار تفوّقهم الاجتماعي ونفوذهم الطبقي. فهم يُغالون في استعلائهم اللغوي snobisme وهو ما التقطته أُذْن الكاتب المصري وريشته فسخر منه عبر محاكاته بشَكلٍ يُظهر عبثيَّته وتفاهته. ومنها تغيير كلمة "سيناتور" إلى "لسان ثور"، وقولهم: "مَرأة لها بارول" في تعريب لـ parole الفرنسية، أي: ذات كلمة ووفاء.
وهكذا كانت الصحافة الساخرة منها والجادة نقلاً للوحات أصليّة وإن لم تخل من بُعدٍ أخلاقي ظلَّ حاضراً بحكم الهم النهضوي الذي حرَّكَ هذه الكتابة ووسَّع مَداها. ولكن هل كان لديانة صنوع أثرٌ في انتقاص أعماله والذهاب حتى إلى إنكار وجوده؟ تُجمع الدراسات الجادة على عكس ذلك. إذ لم يتعلل أحد من الملاحظين بأصوله اليهودية حتى يستخفَّ بمساهمته. بل الظاهر أنَّ كبارًا مثل جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده هما مَن شَجَّعاه على إنتاج "صحفٍ هزلية" قريبة من فَهم الشعب وذائقته، ليَنقل إليه مضامين "النهضة" الجادة التي صاغاها في رسائلهما ومقالاتهما. كان صنّوع وجه النهضة الساخر الحامل لِهَمّها على جناح الإضحاك.