في كتابه "مقالة في الحرية" الصادر حديثاً عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، يتناول المفكّر العربي عزمي بشارة قضية الحرية باعتبارها مسألة متعلّقة بالأخلاق؛ حيث ينطلق من شرط المسؤولية الأخلاقية، معتبراً الحرية قيمة في حدّ ذاتها، فتقوم فرضية مقالته على أن الحرية، كقيمة، تعني الحرية بوصفها حريات، "أما الحرية الأنطولوجية والحرية المُطلقة والحرية المجرّدة فليست قيماً"، كما يقول.
وإن كان الكتاب يُعدّ كتاباً نظرياً وفلسفياً، إلا أنه ينتقد كذلك المعالجات الفلسفية وينتقل إلى الفلسفة العملية، إذ يتناول بشارة الحرية باعتبارها موضوعاً مصيرياً خطيراً للإنسان والمجتمع "لا يقتصر الخوض فيه على تحديد الحرّيات كقيمة ومعيار تُقاس أخلاقية الفعل بموجبهما فحسب، بل يفترض أن يتجاوز ذلك ليتضمّن وعي الإنسان بالخيارات في مرحلة معينة، وضمن أوضاع تاريخية مُعطاة، ومدى دفع أيّ خيار منها المجتمعَ تجاه تحقيق الحريات وضمانها، والمخاطر الكامنة في الخيارات التي لا تُحسب عواقبها على نحو صحيح، ومنها الإضرار بقضية الحرية ذاتها".
في الفصل الأول من الكتاب "دلالات اللفظ ليست غريبة عن العربية"، يقتفي بشارة أثر لفظ الحرية ودلالاته بالعربية، ويرسم له مكامن تحدٍّ، أهمها القدرة على مغادرة النقاش الفلسفي عن الحرية، والانطلاق إلى مسألة الحريات وشروط تحقيقها وحدودها وعوائق تحقّقها في المجتمعات والبلدان العربية.
وإذ ينتقل إلى تصنيف الحريات في الزمن الراهن، يرى أنه "يمكننا موضعة حرية الفكر والإبداع الفني والأدبي بين المدني والسياسي، حيث لا يزال النضال لتحقيقها مستمراً، أو بين الحريات الشخصية والمدنية، حيث ما عادت ممارستها قضية سياسية".
يتابع لافتاً إلى إمكان السعي إلى الحريات وتحقيقها وصونها بوصفها "حقوق المواطنة" في إطار الدولة فحسب، "أما الجماعة القائمة خارج الدولة فتحوي السلطة السياسية في باطنها هي ذاتها، ولا حقوق فيها للفرد بما هو فرد، بل استحقاقات وواجبات تقابلها امتيازات مترتّبة على انتمائه إليها ومكانته فيها".
في الفصل الثاني "ليس الطير حرّاً ولا يولد الناس أحراراً"، لا يتّفق المفكّر العربي مع من يظنّ أن الإنسان يُولد حرّاً، وأن الحرية واحدة في مخلوقات الله كلّها. يقول: "على الرغم من حلم الإنسان بحرية الطيور، الأخيرة ليست حرّة، على خلاف البشر. ليست حرّة، لا في الرفرفة بأجنحتها، ولا في تغريدها. أما البشر فيبحثون في النهاية عن حريتهم في مواضعها الأثيرة؛ النفس الإنسانية والمجتمع البشري المنظّم. الحرية معرَّفة بالعقل والإرادة، مشروطةٌ بهما؛ ومن نافل القول إنهما لا يتوافّران في كائناتٍ لا تملك عقلاً وإرادة. فلا حرية في الطبيعة".
يرى المؤلّف في الفصل الثالث "ملاحظات فلسفية لازمة"، أن لا علاقة لتحرّر الإرادة الإنسانية من قدرية الإرادة الإلهية بتحرير العلم قوانين المادّة منها: "هذان أمران مختلفان. ولا يمكن التعامل معهما بوصفهما متّصلاً واحداً، وعلى الإحداثيات نفسها، إلا إذا اعتُبرت الإرادة الإنسانية جزيئاً من جزيئات هذه الآلة المادية الكونية الخاضعة لقوانينها. لكنها في هذه الحالة تتحرّر من القدر الإلهي لتصبحَ محكومة بالضرورات الطبيعية، فتنتفي عنها الحرية تماماً".
يعتبر بشارة أن الفوضى الاجتماعية "أشنع أنواع الاستبداد"، لأنها تمنع ممارسة الحرية بالضرورة، ولأن الحرية غير ممكنة التحقيق إن سيطر التعسّف والفوضى على حياة البشر، لكنها قابلة للتحقّق في ظل القوانين، على الرغم من قدرة هذه القوانين على حجب الحريات.
بحسب المؤلّف، يجد العلماء صعوبة في التعامل مع فكرة الحرية علمياً، و"ربما وجد الفيزيائيون لها فسحة في فيزياء الكمّ وغيرها، وفي امتناع بعض المجريات الطبيعية عن التنظيم إلا من خلال علم الإحصاء، وعلى درجة معينة من الاحتمال فحسب".
يذهب بشارة إلى أن عدم وجود للحرية من دون وعي وإرادة، وأن الحرية ليست هي المقابل للعلية أو الحتمية. وفي رأيه، لا وجود لحرية كوزمولوجية، ولا العلم رديف الحرية فلسفياً، ولا يؤدي عبور حاجز الفكر الديني إلى المجال العقلاني الوضعي إلى الحرية بالضرورة.
يقول: "إذا كانت الحرية موضوع تنظيرات فلسفية ذات معنًى، فلا بد من أن تكون، في رأينا، تنظيرات فلسفية في مجال الأخلاق، وتتمحور حول مقولتين: شرط الأخلاق حرية الإرادة، والحرية قيمة".
في الفصل الرابع "الحرية: أهي سالبة وموجبة؟"، يشدّد المفكّر العربي على أن الحرية مسؤولية، وعلى أن الإنسان مسؤول، ليس عما اختاره وقام به فحسب، بل عن نتائج هذا الخيار أيضاً.
ويرى أن الحرية السالبة لا تظهر بذاتها في التاريخ، لا كحرية اختيار مجرّدة، ولا بوصفها كسراً لأيّ قيد على هذه الحرية. ولا تظهر الحرية الموجبة وحدها من دون صيرورة تحرّر، ويقول إن هذه التصنيفات بين حرية سالبة وموجبة هي تصنيفات عقلية لعناصر غير منفصلة في الظواهر الاجتماعية.
ويلفت إلى أن الحرية السالبة تنفي القيود: "إنها التحرّر من إكراه الإنسان على اتباع نمط حياة مفروض، ورفض تقييد حرية الحركة وتكميم الأفواه وحظر التجمع والسجن العشوائي. وهي إذا لم تشمل حرية الإنسان بأن يقوم بأفعال معينة تتجلى في حريات موجبة وتوفير الشروط كي يمارس هذه الحريات، فإنها تبقى مجرّدة".
يرصد الفصل الخامس، وعنوانه "عن الانشغال الفلسفي بالحرية"، النقاش الفلسفي المستمر في شأن العلاقة بين حتمية العِلّية وحرية الإرادة، ومن ثمّ الحق في محاسبة الإنسان، ولا يرى تناقضاً بين العِلّية والحرية، إذ يلخص حرية الإنسان بأنها في فعله نفسه. ولا يرى بشارة الحرية قضيةً نظريةً فلسفية في الفكر الليبرالي المعاصر، بل يعدّها مسألة سياسة ومجتمع واقتصاد.
يطرح الفصل السادس، وعنوانه "بعض الأسئلة العملية الكبرى"، تساؤلات عدّة، يجعلها منصّات نقاشية لمسألة الحرية والحريات. يسأل: ما نوع الوعي اللازم لممارسة الحريات السياسية؟ أتشترط ممارستها بها أم أن ممارسة الحرية هي شرط لتطوّر هذا الوعي؟
يقول بشارة إن الوصول إلى درجات عليا من الوعي ليس ممكناً من دون ممارسة حرية الرأي والتعبير والاجتماع والاتحاد وحقّ الوصول إلى المعلومات وغيرها من الحريات المدنية. فتوافر الحريات الفردية شرط الديمقراطية الليبرالية، وهي معطى كجزءٍ من حقوق المواطنة الحديثة.
ويسأل صاحب "أن تكون عربياً في أيامنا": إذا وقعت المفاضلة بين الاستقرار وحفظ الحياة من جهة والحرية من جهة أخرى، فأيهما نختار؟ إنه السؤال الشائع اليوم في المجتمعات العربية، فالأنظمة الحاكمة تميل إلى تخيير المحكومين بين الاستبداد والفوضى، "لكنه، مع ذلك، سؤالٌ وهمي. فمن يعارض منح الناس الحريات المدنية والسياسية لا يدّعي عادة تأييد الظلم، بل يقابل الحرية بقيمة أخرى مثل الوطنية أو الاستقرار والحفاظ على الأمن. فهو يتهم مطالب الحريات المدنية والسياسية بأنها مؤامرة خارجية".
ويسأل أيضاً: هل ثمّة علاقة بين الحريات الشخصية والحريات المدنية والسياسية؟ وهل تصحّ التضحية بالحريات المدنية والسياسية لغرض الحفاظ على الحريات الشخصية؟ وهل تحرير المجتمع والفرد من الإملاءات الدينية يكفي كي يمارس الإنسان حريته؟
يستمر بشارة في طرح الأسئلة: لا شك في أن أغلبية الدول العربية لا تتيح حرية التعبير عن الرأي، ولا سيما الرأي السياسي. فهل تعززت هذه الحرية مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي؟ وما العلاقة بين حرية الفرد وحرية الجماعة التي ينتمي إليها؟ ولمن الأولوية، للمساواة أم للحريات؟ ويوضّح أن إطلاق الحريات للجميع من دون توافر المساواة في شروط تحقيقها "يفرّغها من أي مضمون عملي، ويحوّلها حرياتٍ نظرية غير ممارسة وغير ممكنة التحقيق".
في الفصل السابع والأخير، وعنوانه "مداخلة بشأن العدالة... سؤال في السياق العربي المعاصر"، يحاول بشارة الإجابة عن سؤال طرحه في الفصل السابق حول العلاقة بين الحرية والعدالة، إذ يرى أن لفظ العدالة كمصطلح، قبل أن يتبلور مفهوماً في نظريات "يقع في حقول دلالية متقاطعة مثل التساوي والمعاملة بالمثل والملاءمة والاستقامة وغيرها من الدلالات التي يتضمّنها اللفظ العربي؛ فلفظ "عادَلَ" بالعربية معناه ناظَرَ أو شابَهَ، ويعني أيضاً وازَن، و"عدّل" الشيء أي صحّحه وجعله مستقيماً، ومن هنا ارتباط مقولة معروفة تُنسب إلى عمر بن الخطاب عن تقويم الاعوجاج بالعدالة: "من رأى منكم فيَّ اعوجاجاً فليقوّمه". الاستقامة والعدالة في مقابل الظلم والاعوجاج. وكذلك نجد الزيغ والميلان والهوى، في مقابل العدل. فالعادل هو أيضاً من لا يميل به الهوى حين يحكم بين خصمين، أو حين يطبّق القواعد الاجتماعية المانعة الشرّ".
ثبت للمؤلّف، من خلال نضال الشعوب ضد الظلم في التاريخ، أن الحرية شرط من شروط العدالة التي يتغيّر مفهوم الناس لها بالمعرفة والممارسة؛ "ونظرياً، أصبحت الحرية مركّباً لا يمكن تجاهله عند الحديث عن العدالة لأسباب ثلاثة: أولاً، ربما يكون تقييد الحرية أحد أهم التعبيرات عن اللامساواة في الحقوق، ثانياً، ربما ينتج من تقييد الحرية بحد ذاته لامساواة في الحقوق، ومن ثمّ يؤدي إلى انعدام العدالة، ولا سيما تلك العدالة التي تحاول فرض تصوّر عن السعادة قائم لدى من يفرضها، ثالثاً، لأن الحرية أصبحت من الناحية الفكرية، وفي حاجات الناس وتوقعاتهم وتطلعاتهم، أحد الخيرات أو إحدى المنافع الاجتماعية والوطنية، فأصبح لزاماً أيضاً توزيعها توزيعاً عادلاً، حيث أصبحت الحرية السياسية حاجة إنسانية".