عند الحادية عشرة ليلاً إلّا خمسة عشر دقيقة، تبدأ ثلاثة بغالٍ مكتنزة بالركض داخل رأسي. تركُض وتركُض وتركُض مُخلّفةً زوبعة غبار في عينَيّ وطنيناً في أذنَيّ. بالطبع، ما كان ليُزعجني الأمر لولا أن ساعتي البيولوجية تدقُّ عند الحادية عشرة ليلاً إلّا خمسة عشر دقيقة بالضبط، مُعلنةً أنْ حيَّ على النوم.
لولا ذلك، ما كنتُ لأنزعج أبداً. أؤمن تماماً بأن حقّ الركض مكفولٌ للجميع.
لكُم أن تتصوّروا البقيّة: أتقلّب في فراشي، يُلقي فمي المتثائب كلمات نابيةً فترتدّ في الحائط عائدةً إليّ، أسدّ أُذنيَّ لمنع تسلُّل الصوت القادم من فوق؛ حيثُ تركض البغال الثلاثة. لماذا أتصوّرها بغالاً وليس شيئاً آخر؟
تُريدون سبباً وجيهاً؟ سأُخبركم بالحقيقة، حتّى وإن كانت ستُثير سخريتكم. إنه سببٌ لُغوي صرف. في البدء، فكّرتُ في أنها ثلاثة جحوشٍ لا يحلو لها الركضُ إلّا وقت نومي، ثمَّ نهضتُ من فراشي فزعاً أبحث عن القاموس. هل جمعُ جحشٍ هو جحوشٌ فعلاً؟ أم جِحاش، على وزن بِغال؟
لم أستسغ أيّاً من المفردتَين؛ كلاهما بدا لي منفّراً وخاطئاً. لكنّني سأقرأ، في القاموس طبعاً، أنهما صحيحتان؛ وسأكتشف أن ثمّة صيغتان أُخريان منفّرتان أيضاً؛ هما: أجحاش وجِحشان. كان ذلك سبباً وجيهاً لأعدِل عن تصوّري الأوّل، وأرسمَ ثلاثة بغالٍ تركض داخل رأسي، فوق رأسي، في الطابق العلوي.
ولكن، لماذا أعتقد أنها ثلاثة، وليست أربعة على سبيل المثال؟ الحقيقة أنني لا أملك سبباً منطقياً لذلك.
يستمرُّ الركض قرابة ربع ساعةٍ كلّ يوم، وهو وقتٌ كافٍ لطرد نومي إلى غير عودة. الحقّ أنه يعود.. يعود متأخّراً جدّاً؛ عند السادسة صباحاً.
ليلة أمس، قرّرتُ أن عليَّ فعل شيءٍ بدل إطلاق العنان لفمي لإطلاق الشتائم التي ترتدّ في الحائط عائدةً إليّ؛ كأن أطرق باب الشقّة التي في الطابقِ العلوي وأقول بلهجةٍ غاضبة: "رجاءً، امنعوا بغالكم الثلاثة الصغيرة عن الركض في هذا الوقت. لديها النهار بأكمله، إن كانت تلك هوايتها المفضّلة". تُجيبني سيّدة البيت السمينة: "أنت مخطئ أيّها الجار الغريب. لدينا أربعة بغال هنا". ثمّ تدعوني إلى الدخول، لأتأكّد من العدد بنفسي.
أحاول طرد تلك التخيّلاتٍ التي عنّت على ذهني المشوّش في لحظةٍ مفصلية بين اليقظة والنوم. أظلُّ أتقلّب في فراشي، من دون أن أُفكّر في أن أخطو خطوةً واحدةً خارجه. هناك عقَبةٌ لغوية تحول دون ذلك. لنتصوَّر أنني طرقتُ الباب فعلاً، ثمّ أطلّت سيّدةٌ سمينةٌ فعلاً، ماذا عساني أقول وأنا لا أتحدّث لغتهم وهم لا يفهمون لغتي؟ ماذا سأفعل لأشرح لها الأمر؟ هل آخذ بالركض في بهو بيتهم، مثل البغل، على سبيل المثال، بينما أُردّد "ستوب ذيس... بليز"؟
العقبة نفسها حالت دون احتجاجي على مهرجان الضجيج الذي يُحييه الجيران في الغرفة الملتصقة بغرفتي، جهة اليسار، مرّتيَن كلّ أسبوع.
صباحَ اليوم، وبينما كنتُ خارجاً من البيت، سمعتُ صرير باب الشقّة التي في الطابق العلوي، تلته أصوات سيّدة وأطفال. لستُ مجرماً، وإلّا كنتُ لأفكّر في الدخول مجدّداً لإحضار شيءٍ يصلح أداة جريمة يرتكبها جارٌ غريب وآرق. بعد ثوانٍ، كنتُ أرى يدَي سيّدةً جميلةٍ وأنيقة تُمسك يدَي توأمَين جميلَين، متشابهَين، يرتديان مئزرَين متشابهيَن ويحملان حقيبتَين متشابهتَين. مرّوا من أمامي بينما تظاهرتُ بالانشغال بقفل الباب. وكان من الجيّد، لرجلٍ آرق، أن أرى ابتساماتهم وأسمع تحيّةً منهم أيضاً.
أجبتُ التحيّة الصباحية. تلك واحدةٌ من الكلمات القليلة التي تعلّمتُها بشقّ الأنفس. يا إلهي، ما أجمل التوأمَين!
الجحش حيوانٌ جميل، ما دام جحشاً، كما كانت جدّتي تقول دائماً؛ ذلك أنه يفقد جماله ويُصبح عصيّاً على الفهم والتعلُّم بمجرّد أن يكبر... بمجرّد أن يصير حماراً.