"مسرحية كوميدية موسيقية"، ذلك هو ما تعرّف به الجهة المنتجة، مسرح "تياتر أن دير رور" في ألمانيا، عرض "كلاونس 2 ونصف"، غير أن العمل يلامس ما هو أكثر من ذلك التصنيف بكثير، فهو يقدّم مسرحاً صامتاً ويوظف الأغراض بطريقة مسرحية وموسيقية في آن، حيث تتحوّل الجرائد أو الأواني أو النقود إلى آلات موسيقية.
عُرضت "كلاونس 2 ونصف" مؤخراً في قاعة "الفن الرابع" في تونس، ضمن أسبوع الاحتفالات باليوم العالمي للمسرح. عمل أخرجه كل من روبرتو تشولي وماتياس فلاكه اللذين يجسّدان في العمل شخصيّتين تعيشان صراعاً صامتاً وقاتلاً.
قبل العرض، يصعد تشولي ليلقي كلمة باللغة الفرنسية، يُطمئن الحاضرين أن عائق اللغة لن يعترضهم رغم أن كل الممثلين ألمان. يفسّر في كلمات مقتضبة عناصر العنوان: فالشخصيات التي ستظهر في العمل هي "بهلوانات" وإن لم ترتد الأزياء المعروفة للبهلوانات. هؤلاء ستجمعهم الحياة في دار مسنين حيث يعانون من سيطرة النظام فيها.
العنصر الثاني هو رقم 2، يشير تشولي إلى أن عمله هذا هو نسخة مطوّرة من مشروع مسرحي جرى تقديمه في تسعينيات القرن الماضي، أما كلمة "النصف" في العنوان فيقول إنها مجرّد لفتة إلى المخرج الإيطالي فيديريكو فلّيني الذي أنجز فيلماً بعنوان "8 ونصف"، وكأن تشولي بهذا الاختيار يشير إلى أصوله الإيطالية من جهة، وكذلك إلى محاولة الاشتغال على شاعرية التذكّر لدى الفنان كما فعل ذلك فلّيني.
يبدأ العرض بتوافد ثماني شخصيات على القاعة الرئيسية من دار المسنين. لكل منهم عالمه القديم الذي يرفض أن يتخلى عنه، وتكشفه ملابسه وحركاته؛ من الجنرال العسكري السابق إلى المغنية الأوبرالية.
إضافة إلى المسنّين الثمانية، تظهر شخصيّتان تشرفان على الدار، المدير (أداء فلاكه) الذي تظهر سلطته من خلال احتكاره العزف على البيانو، حيث يقدّم معزوفة دائرية واحدة طوال العرض، وكأنه يوقّع المنهج اليومي الذي يسير عليه الجميع.
الشخصية الثانية هي عامل الدار، والذي يُجبر البهلوانات على الامتثال للأوامر كلما رفضوا ذلك، خصوصاً في نهاية كل مشهد، إذ يرفضون الذهاب إلى النوم ما يضطرّه في كل مرة أن يُحضر مكنسة هوائية فتلقي بهم واحداً واحداً وهم يتدحرجون بحزن خارج القاعة الرئيسية إلى ظلمة الكواليس.
ضمن كل مشهد، يجري توظيف أصوات الأغراض التي يتضمّنها إضافة إلى الخلفية الموسيقية التي يعزفها المدير. في المشهد الأول، مثلاً، وهو يجسّد ما يدور في الصباح، يبدأ البهلوانات في قراءة جرائدهم ثم لا يلبثون أن يضجروا، فيبدأون بالتسلّي بتقطيع أوراقها ضمن إيقاع موحّد، كلٌ بطريقته، صانعين هارمونيا تتفاعل مع المعزوفة الرئيسية التي يقدّمها المدير.
في مشهد آخر، يجسّد جلسة الشراب في المساء، يجري استعمال الكؤوس والأواني لأداء الموسيقى، وفي مشهد آخر يجري العزف بأصوات التثاؤب. تخدم هذه الأدوات في آن واحد شعرية المسرحية وصمتها.
يحضر تشولي على الخشبة كأقل البهلوانات ظهوراً حركياً، بالرغم من أنه أول الحاضرين على الخشبة وآخر المغادرين دائماً. البهلوان الذي يقدّمه لا يحب الامتثال إلى الأوامر، لكنه الوحيد الذي يرفض أن تلقي به "المكنسة" خارج الخشبة، فيوقف اللعبة ويمضي وحده إلى الخارج. شيء من "الثورية" كانت توحي به الشخصية التي جسّدها تشولي، وهو يحاول في صمت نقل هذه الرؤية عن النظام الذي يحكم الدار لزملائه. من هذه الزاوية يبدو العرض عملية تدريب لبقية البهلوانات على هذا الحسّ الثوري.
بعد قرابة الساعة، يفاجأ المتفرّج بتكرار المشهد الأوّل بحذافيره. بدقة لافتة يجري تنفيذ هذا التكرار، وكأنه يقع داخل ذاكرة المتفرّج، فحتى الحركات البسيطة، كالسعال أو الالتفاتات، تستعاد كما هي. تبدأ جلسة القراءة ويبدأ العزف وتقطّع الجرائد من جديد، وفي النهاية يرفض المسنّون المغادرة للنوم، يُحضر العامل مكنسته الهوائية، ليأتي أوّل خروج عن التكرار حيث يقرّر البهلوانات مقاومة الخروج فيتجمّعون في كتلة واحدة لتعجز المكنسة عن تحريكهم. وفي لقطة مرحة يقومون باستعراض شبيه بالعرض الأدائي النيوزيلاندي في مباريات لعبة الرغبي.
الشخصية التي يؤدّيها تشولي ستكون مرّة أخرى صانعة لأحداث المسرحية، حيث يطلق الرصاص (بالخطأ) على المدير وهو يعزف، ليختل كل النظام الذي كان الجميع يسير عليه مع توقّف العزف. يبلغ البهلوانات أخيراً فرصة لمس البيانو ووضع أيديهم على مفاتيح حياتهم، وفي مشهد أخير يتجمّعون معاً داخل خزانة.
تبدو المسرحية على المستوى الشكلي متجاذَبة بين الشخصيّتين الفنّيتين لمخرجَيها، فقد استفادت من الروح الموسيقية لفلاكه ومحاولاته التجريبية ضمنها، غير أنها تظل أقرب ما تكون من أجواء تشولي، إذ إنها تجسّد الكثير من لمحات مشوراه، فالفنان الإيطالي الألماني يشتغل منذ عقود على مسرح يقوم على شخصية المهرّج يطوّره باستمرار. ها هو في "كلاونس 2 ونصف" يصل بهذه الشخصية إلى أسئلة الموت ومقاومة الخروج من الحياة.