هل اختفى الفلاسفة حقًا من مشهد التأمّل والفكر كما يدعي بعضهم؟ ما فتئ مثل هذا التساؤل يعود ويتكرّر على خلفية تسارع المستجدّات التكنولوجية والمعلوماتية. لكن حتّى وإن اختفى الفلاسفة، فإن الفلسفة ما زالت تنشط كخطاب في عدّة مجالات؛ في المجال السياسي والعلوم والتكنولوجيات الحديثة، واليوم تضاف إليها، شبكات التواصل الاجتماعي. فقد طعّمت الفلسفة بمصطلحاتها هذه الميادين، الأمر الذي يبرهن أن الفلسفة لم تمت بل لا تزال حيّة ترزق. ولوضعها في المصاف اللائق بها وجبت إعادة قراءتها على ضوء هذا الوضع وهذا الواقع. وسؤال "لِم قراءة الفلاسفة العرب؟ التراث المنسي" شغل قلب الفيلسوف المغربي علي بنمخلوف في كتابه الأخير الذي يصدر عمّا قريب (منشورات ألبان ميشيل).
بنمخلوف المتخصّص بالفلسفة العربية، وبالمنطق خاصّة أعمال غوتلوب فريج وبرتراند راسل وألفرد نورث وايتهيد، هو أحد أبرز الوجوه الفكرية الفرنسية، التي تبوأت منزلة محترمة في المؤسسات الفكرية والجامعية الفرنسية. فهو أستاذ للفلسفة في جامعة كريتاي بباريس وعضو في اللجنة الاستشارية الوطنية للأخلاقيات. لبنمخلوف مؤلفات عديدة تربو على الثلاثين أهمها : "الفارابي، بغداد في القرن العاشر" (منشورات سوي) و"الهوّية كخرافة فلسفية" (المنشورات الجامعية الفرنسية).
قراءة الفلاسفة العرب، لا تعني الخوض في تاريخ للفكر يكون أسيرًا للنصّ القرآني، بل على العكس تقتضي اكتشافًا وكشفًا عن التناسق داخل موروث الفكر الإنساني إلى يومنا هذا. لأن تفكيرنا لا يزال يشتغل بفضل الفلاسفة العرب كابن سينا وابن رشد وابن باجة مثلًا، الذين تمّت "وراثتهم" إن جاز التعبير من قبل الغرب. وقد أصبحت المواضيع التي عالجوها، تشغل، بطريقةٍ سرّية ومجهولة، موروثنا الفلسفي. يتعلّق الأمر هنا، بالتعريف بها وإخراجها إلى حيّز الوجود. إذ إن قراءة الفلاسفة العرب اليوم، تعني الوعي بجذور سياسة العقل والقانون والعناية بالمنطق الأرسطي، وهي رهانات حديثة تتطلّب منا زيارات جديدة لبغداد وقرطبة.
يسعى بنمخلوف إلى برهان أن الفلسفة العربية، كما تألّقت بين القرنين السابع والخامس عشر، هي مكوّن أساس من التاريخ الثقافي للإنسانية. فقد عرفت الفلسفة العربية المكتوبة في القرون الوسطى طفرة هائلة.
ووفقًا للفيلسوف الفرنسي جان جوليفيه، المتخصّص بالفلسفة الوسيطة، فإن الفلسفة العربية ولدت مرتين: مرة أولى في هيئة لاهوت أصلي، ثمّ ثانية في هيئة تيّار فلسفي نهل من معين التيارات اليونانية. والولادة الثانية هي الأهمّ إذ تحرّكت بصورة مستقلة ومنفردة لطرح قضايا الكون والمصير وعلاقة الإنسان بخالقه. ما يعني أن الفلسفة العربية تأسّست كقول يتكأ على الحجة لا الإلهام، وهنا يجيء أرسطو كمرجعية عقلانية، أمّا القرطبي ابن رشد، فيؤكّد في مطلع كتابه "فصل المقال" أن مصدر الفكر هو العقل. وأن علينا، من أجل بلوغ الحقيقة، استعمال المنطق الأرسطي وتوظيفه. وسيغدو التوفيق بين العقل والنقل شاغلًا لدى ابن رشد وابن ميمون على حدّ سواء.
يشير بنمخلوف إلى أن بحثه يندرج ضمن منظور للمعرفة غير فرداني، مستعينًا بمناهج حديثة منها: الذكاء العلمي الذي اقترحه عالم الرياضيات الألماني فريج أو شبكة المفهومات التي اقترحها ابن رشد. وعوضا عن المقولة الشهيرة "أنا أفكر" يقترح بنمخلوف صيغة أخرى "مفكّر فيه"