عنوان المقال، مأخوذ حرفيًا من عنوان أحد أهمّ الكتب التي تؤرّخ لكيفية بناء مصر الحديثة من خلال مؤسسة الجيش؛ كلّ رجال الباشا، لخالد فهمي. الكتاب مكرّس لصوت "الجندي الصامت" مجازًا وفعلًا في جيش مصر الذي أسّسه حاكمها "المستبد المستنير"؛ محمّد علي. مجازًا؛ لأن الجندي الصامت لم يترك أثرًا مكتوبًا فقد كان أمّيًا. وفعلًا؛ لأن الباحث المرموق يستنطق الوثائق التي كتبتها السلطة، لتقول ما أخفته من أمر الجندي الصامت. الحجّة القوّية كلّها هنا؛ فبدلًا من الذهاب إلى كتب لا تُحصى مجّدت محمّد علي وأرّخت لمصر من خلال شخصه و"نظراته الثاقبة"، انحاز فهمي إلى وثائق مختلفة ؛ خطابات محمّد علي نفسه، وقد كان أميًا كما الجندي، لكنه وبسبب موقعه، أملى بالتركية خطاباته التي حُفظت بالطبع، (في سراي عابدين) لأنها صادرة عن "ذات سنية". بيد أن أهم ما كشف عنه فهمي هو أن هذه الخطابات التي كانت موجودة في قسم المحفوظات الملكية، شكّلت نواة المجموعة الوثائقية التي تكّونت منها دار الوثائق القومية عام 1954. وأنها في رحلتها من الحفظ الملكي إلى الاستعمال العام، تعرّضت في جزء منها إلى عمليات انتقاء وغربلة وترجمة محرّفة قصدًا، وإخفاء متعمّد، قصدت كلّها إلى إضفاء هالة من السحر على محمّد علي، على نحو يصعب فيه بالنسبة لأي مؤرخ النجاة من هالة "مؤسّس مصر الحديثة".
اقرأ أيضاً: لك يا منازلُ
لكن فهمي نجا من إسار محمّد علي، وبيّن كيف أن "نظرات الباشا الثاقبة ليست مصدر سلطة الباشا، وإنما نتيجة لها"، حين استنطق باقتدار وثائق من نوع آخر؛ القوانين العسكرية التي كانت من أولى منشورات مطبعة بولاق، وأيضًا كشوف التمام وكشوف الجرد والمحاكمات العسكرية والرواتب. وهذه الأخيرة وإن كانت صادرة عن السلطة، إلا أنها كشفت بطريقة علمية حياة "الجندي الصامت" من خلال طريقة التجنيد القاسية الأقرب إلى الاعتقال، ومحاولات الجنود المتكررّة للإفلات من سلطة مؤسسة الجيش، أي "المقاومة" عبر أمور شتّى من أهمّها التهرّب من التجنيد وتشويه الجسد، وصولًا إلى الوعي بالتمييز الإثني واللغوي الذي كان في صلب تكوين مؤسسة الجيش وقتذاك؛ حيث المراتب العليا للأتراك والدنيا للمصريين. الظلم المستمرّ إذن، رغم الانتصارات العسكرية، كان المكوّن الرئيس في انتزاع المصريين استقلالهم وإدراكهم هوّيتهم، لا كما تروي الكتب حين تعيد الفضل كلّه كاملًا سالمًا إلى محمّد علي وحده، باعتباره المخلّص والمستنير. عبر إنصاف "الجندي الصامت" قوّض فهمي الرواية الرسمية، رواية السلطة من خلال وثائقها المدوّنة. العبرة كلّها هنا في التدوين. لم يدوّن الجندي الصامت شيئًا، لكن خطاب السلطة المدوّن، حمل صوته "المتواري" وإن عن غير قصد. ليس الصوت المتواري صوتًا فرديًا، بل صوت جماعة "كلّ رجال الباشا"، وهذه نقطة فارقة، إذ هي المعبّر عن الذاكرة الجمعية المؤلِّفة لقوام الهويّة، أي هوية.
اقرأ أيضاً: سحرٌ من شبه الجزيرة
الذاكرة الجمعية تعني بإحدى صورها، الحكايات غير المدوّنة. تلك الحكايات التي تنتقل من جيل لآخر شفهيًا، وإن كانت تبدو في ظاهرها رفيقة ليالي السمر، فإنها ليست كذلك واقعًا. فالعبرة و"الأمثولة" Allegorie، في الحكايات، اللتان يُظنّ أنهما في موقع الاستنتاج السليم عند النهاية، ليستا إلا الحلقة الأخيرة من سلسلة الرموز والعلامات التي تخاطب لا وعي المستمعين. رموز وعلامات حاملة للأعراف والتقاليد الاجتماعية التي تمكّن جماعة ما، من صوغ هوّيتها. لذا فإن انتقال الحكاية من الشفهي إلى الكتابي، دونها مصاعب ومخاطر. تصطدم الحكاية التي صمدت لمئات السنين شفاهةً، برقابة المدوّن والمكتوب. وهنا تجيء السلطة، أي سلطة، كـ "خلسة المختلس"، لتفرض التهذيب والتشذيب والتنقيح والحذف إلى آخر سلسلة الرقابة. الحرية في الشفهي كاملة، وفي الكتابي معتلّة.
كلّ تجارب الشعوب في تدوين حكاياتها تعرّضت للرقابة، وأشهرها؛"حكايا الجنيّات" أو الـ Les Contes des Fées. حيث مارس مدوّنوها الفرنسيون الأوائل الرقابة؛ فقد حذف شارل بيرو من حكاية "ذات القبعة الحمراء" أمورًا بدت في نظره "غير لائقة" بل مرعبة ومخيفة بالنسبة للأطفال، مثل دعوة الذئب لذات القبّعة الحمراء إلى أكل لحم جدّتها الميتة وشرب دمها، أو خلع الطفلة ملابسها، أو خروج الذئب للتغوُّط. لكن للرقابة مدّة صلاحية، فقد بدّد المحلِّل والطبيب النفسي النمساوي برونو بيتيلهايم في كتابه "التحليل النفسي لحكايا الجنيّات" فِعلها. وسبر المعاني الكامنة في الحكايات، فخبرته في معالجة الأطفال أتاحت له الكشف عن الجانب العلاجي لها، فكلّ واحدة منها تعكس صراعاً أو قلقاً أو مخاوف تظهر خلال مراحل تطوُّر الطفل ونموّه. ووفقاً لبرونو فإن الحكاية تساعد الطفل على اكتشاف حقائق الحياة من خلال تسليته، وإيقاظ فضوله، إذ تحثّه على التخييل، وتساعده على رؤية انفعالاته وعواطفه، وتعينه على أن يعي الصعوبات التي تواجهه، لكن الأهم أنها تقترح له الحلول الممكنة لمواجهة المشاكل التي تعصف به.
"كل رجال الباشا" هي الحكاية الشفهية وقد انتقلت إلى الكتابة، وكذلك "قول يا طير"، الكتاب الذي دوّن فيه الباحثان شريف كناعنة وإبراهيم مهوّي، ضيف ملحق الثقافة، حكايات من التراث الفلسطيني. تدوينٌ علمي تبعه تحليل مكين، لأن الحكاية الفلسطينية؛ هوّية.
اقرأ أيضاً: لك يا منازلُ
لكن فهمي نجا من إسار محمّد علي، وبيّن كيف أن "نظرات الباشا الثاقبة ليست مصدر سلطة الباشا، وإنما نتيجة لها"، حين استنطق باقتدار وثائق من نوع آخر؛ القوانين العسكرية التي كانت من أولى منشورات مطبعة بولاق، وأيضًا كشوف التمام وكشوف الجرد والمحاكمات العسكرية والرواتب. وهذه الأخيرة وإن كانت صادرة عن السلطة، إلا أنها كشفت بطريقة علمية حياة "الجندي الصامت" من خلال طريقة التجنيد القاسية الأقرب إلى الاعتقال، ومحاولات الجنود المتكررّة للإفلات من سلطة مؤسسة الجيش، أي "المقاومة" عبر أمور شتّى من أهمّها التهرّب من التجنيد وتشويه الجسد، وصولًا إلى الوعي بالتمييز الإثني واللغوي الذي كان في صلب تكوين مؤسسة الجيش وقتذاك؛ حيث المراتب العليا للأتراك والدنيا للمصريين. الظلم المستمرّ إذن، رغم الانتصارات العسكرية، كان المكوّن الرئيس في انتزاع المصريين استقلالهم وإدراكهم هوّيتهم، لا كما تروي الكتب حين تعيد الفضل كلّه كاملًا سالمًا إلى محمّد علي وحده، باعتباره المخلّص والمستنير. عبر إنصاف "الجندي الصامت" قوّض فهمي الرواية الرسمية، رواية السلطة من خلال وثائقها المدوّنة. العبرة كلّها هنا في التدوين. لم يدوّن الجندي الصامت شيئًا، لكن خطاب السلطة المدوّن، حمل صوته "المتواري" وإن عن غير قصد. ليس الصوت المتواري صوتًا فرديًا، بل صوت جماعة "كلّ رجال الباشا"، وهذه نقطة فارقة، إذ هي المعبّر عن الذاكرة الجمعية المؤلِّفة لقوام الهويّة، أي هوية.
اقرأ أيضاً: سحرٌ من شبه الجزيرة
الذاكرة الجمعية تعني بإحدى صورها، الحكايات غير المدوّنة. تلك الحكايات التي تنتقل من جيل لآخر شفهيًا، وإن كانت تبدو في ظاهرها رفيقة ليالي السمر، فإنها ليست كذلك واقعًا. فالعبرة و"الأمثولة" Allegorie، في الحكايات، اللتان يُظنّ أنهما في موقع الاستنتاج السليم عند النهاية، ليستا إلا الحلقة الأخيرة من سلسلة الرموز والعلامات التي تخاطب لا وعي المستمعين. رموز وعلامات حاملة للأعراف والتقاليد الاجتماعية التي تمكّن جماعة ما، من صوغ هوّيتها. لذا فإن انتقال الحكاية من الشفهي إلى الكتابي، دونها مصاعب ومخاطر. تصطدم الحكاية التي صمدت لمئات السنين شفاهةً، برقابة المدوّن والمكتوب. وهنا تجيء السلطة، أي سلطة، كـ "خلسة المختلس"، لتفرض التهذيب والتشذيب والتنقيح والحذف إلى آخر سلسلة الرقابة. الحرية في الشفهي كاملة، وفي الكتابي معتلّة.
كلّ تجارب الشعوب في تدوين حكاياتها تعرّضت للرقابة، وأشهرها؛"حكايا الجنيّات" أو الـ Les Contes des Fées. حيث مارس مدوّنوها الفرنسيون الأوائل الرقابة؛ فقد حذف شارل بيرو من حكاية "ذات القبعة الحمراء" أمورًا بدت في نظره "غير لائقة" بل مرعبة ومخيفة بالنسبة للأطفال، مثل دعوة الذئب لذات القبّعة الحمراء إلى أكل لحم جدّتها الميتة وشرب دمها، أو خلع الطفلة ملابسها، أو خروج الذئب للتغوُّط. لكن للرقابة مدّة صلاحية، فقد بدّد المحلِّل والطبيب النفسي النمساوي برونو بيتيلهايم في كتابه "التحليل النفسي لحكايا الجنيّات" فِعلها. وسبر المعاني الكامنة في الحكايات، فخبرته في معالجة الأطفال أتاحت له الكشف عن الجانب العلاجي لها، فكلّ واحدة منها تعكس صراعاً أو قلقاً أو مخاوف تظهر خلال مراحل تطوُّر الطفل ونموّه. ووفقاً لبرونو فإن الحكاية تساعد الطفل على اكتشاف حقائق الحياة من خلال تسليته، وإيقاظ فضوله، إذ تحثّه على التخييل، وتساعده على رؤية انفعالاته وعواطفه، وتعينه على أن يعي الصعوبات التي تواجهه، لكن الأهم أنها تقترح له الحلول الممكنة لمواجهة المشاكل التي تعصف به.
"كل رجال الباشا" هي الحكاية الشفهية وقد انتقلت إلى الكتابة، وكذلك "قول يا طير"، الكتاب الذي دوّن فيه الباحثان شريف كناعنة وإبراهيم مهوّي، ضيف ملحق الثقافة، حكايات من التراث الفلسطيني. تدوينٌ علمي تبعه تحليل مكين، لأن الحكاية الفلسطينية؛ هوّية.