لم يَحْظ المفكر الفرنسي ريجيس دوبريه أبدًا بالإجماع في بلده فرنسا، كحال أغلب المفكّرين نتيجةً للشرخ التاريخي والمستمر بين اليمين واليسار. لم يتوقف دوبريه منذ بداياته الأولى مغامرًا في أميركا اللاتينية ورفيقًا لثورييها، وإلى اليوم، عن إصدار الكتاب تلو آخر، مبيحًا لنفسه اتخاذ مواقف سياسية ومجتمعية يبدو أنها لا تروق لأحد، لا لليسار الاشتراكي ولا لليمين. ولم يشذ كتابه الأخير: Madame H (السيدة تاء، والمقصود التاريخ)، عن قاعدة إثارة الجدل في المنابر الفرنسية.
لا اليمين راضٍ ولا اليسار
فلم تخفِ صحافة اليمين غبطتها بمؤلّفه هذا، وعنونت مجلة لوبوان الأسبوعية، حوارًا مطولًا معه بـ "ريجيس دوبريه يجهز على اليسار"، رغم أن مواقف دوبريه السياسية لا تروق لليمين. وكذا فإن بعض اليسار بدوره، لا يخفي امتعاضه من مواقف المفكّر، ولا يتحرج في الحديث عن "خياناته" أو انقلابه إلى اليمين.
اقرأ أيضًا: حضور رولان بارت
إلا أن ميل دوبريه لـ"اليمين"، ليس أمرًا جديدًا، بل يعود إلى عقود خلت. ولا يتعلّق الأمر بالصيغة "التقليدية" لليمين الفرنسي، بقدر ما يتعلّق تحديدًا باليمين وفقًا للرئيس الراحل شارل ديغول، وقد أفصح دوبريه بنفسه عن ذلك في مؤلّفات عديدة، منها :"إلى الغد، يا ديغول" (سنة 1990)، الذي ينظر إليه باعتباره تصفية حساب مع اليسار الاشتراكي الذي كشف عن ارتباطه بدوائر المال. ورغم ذلك، فما زال كثير من اليساريين يعدّون دوبريه منهم، ويحاسبونه وفقًا لهذا الأساس.
وبما أن اليسار الفرنسي، سجين أفكار وتصورات جامدة، ولا يريد لأحد مساءلتها، فلم تَرُقْ له مواقف دوبريه أثناء الحرب التي مزّقت يوغوسلافيا، إذ كان ضدّ الحرب الأميركية على ميلوسوفيتش، وضدّ الرغبة الأميركية في فرض سياستها في أوروبا : "أوروبا وضعت دفاعَها بين أيدي أميركا، التي تتجسس بصفاقة على محمياتها، التي لا تستطيع حتى الاحتجاج".
والحقيقة أن مواقف الرجل لا تتفق في شيء مع مواقف اليسار؛ لا في السياسة الفرنسية الخارجية ولا مسألة العلمانية ولا العلاقة بين هذه الأخيرة والإسلام، مرورًا بالاعتداء على صحيفة "شارلي إيبدو".
اقرأ أيضًا: عودة الفيلسوف الفاجر
دوبريه "صادم" في انتقاده الهيمنة الأميركية في أوروبا والعالم، وفي التحسّر على مكانة فرنسا اليوم، وهو ما يثير غضب قسم كبير من اليسار، خاصة الاشتراكي الحاكم. وينتقد في الآن ذاته عودة فرنسا إلى حلف الناتو، كما في كتابه "ما الذي تبقّى من الغرب؟" حيث قال: "اندفعت بسذاجة حدّ الاعتقاد بأن بلد جوريس وديغول يجب عليه ويستطيع أن يكون الرائد في أوروبا. لكن هذا الحلم الجميل مات. وقد أطلق عليه نيكولا ساركوزي رصاصة الرحمة من خلال تنظيم عودتنا إلى "العائلة الأوروبية"، أي في القيادة العسكرية في الناتو. هذا التخلي العديم الدلالة لكن الرمزي، الذي أكَّدَهُ سلفه الضاحك وشبيهه "الاشتراكي"، سجَّل استمرارية دبلوماسية الاستعمار الهادئ للأرواح والكلمات، ولاستيلاب سياسيينا المحليين وأيضًا لمديري الوعي الرسميين".
لم يأت انتقاد دوبريه لليسار من فراغ، وهو ليس الوحيد الذي يتأسّف على غياب اليسار عن ساحة الجدل والأفكار. ولا يحتاج المرء إلى بذل جهد كبير لاكتشاف أن اليسار الحاكم لا يُطبّق سياسات اليسار ولا أفكاره: "لقد فَقَدَ اليسار أفكارَه الخاصة. وأصبحت الأفكار اليسارية أقلية. واليسار في فرنسا إمّا أنه يخشى كثيرًا أن يظلّ مهجورًا أو أنه يُفضل كثيرًا السلطة من دون أفكار على أفكار من دون سلطة، وهذا ما يجعله كالحرباء".
ويتأسف دوبريه على زمن ولّى كان فيه الحزب الاشتراكي يمتلك مجلات أسبوعية، وكان أمينه العام ينشر مقالًا كلّ أسبوع. وأما اليوم فإن قيادييه يتهافتون على برامج التلفزيون. وينتهي به الأمر إلى أن يجزم بأن هذا اليسار الذي "لا يحسم في أي شيء عدا القنب الهندي والزواج للجميع، لا يستحق الحياة".
اليسار أيضًا وأيضًا
إلا أنه رغم كل شيء، فريجيس دوبريه، يساري على طريقته. وهو ما يلخصه بعشقه "للفرديات الجماعية"، وبتعاطفه الذي لا يُقاوَم مع الخاسرين والذين يتعرضون للإهانة، وبتعلقه الشديد بمبادئ الحرية والمساواة والأخوة.
وإذا كان اليسار الثقافي الراهن يُطري على ميشيل ويلبيك، بمناسبة وبدون مناسبة، فإن دوبريه يفضل بيير ميشون: "هو الذي سيبقى حيًا".
ما الذي يَعيبُهُ اليسار الفكري والسياسي، حقًا، على ريجيس دوبريه؟ وهو الذي أنجز، خلال عقود، نقلات نوعية في فكره ومواقفه، جعلته يقترب من ديغول ومن فهمه لاستقلالية فرنسا ومكانتها في محفل الأمم، كما جعلته ينفتح على المقدس والديني؟ أو بصيغة أخرى، ما الذي جعل النائب البرلماني الفرنسي اليميني جان لويس بورلانجيس، يقول: "المُحرِّرُ الملحمي حلَّ محلَّه ليبراليٌّ متعقّل، ليبراليٌّ رغم أنفه، بطبيعة الحال"؟
يلوم كثير من أهل اليسار دوبريه لأنه لم يكن يوافقهم في قراءتهم لمرحلة ما بعد شارلي إيبدو. ولأنه "بشّر" بعودة "الديني"، حين يقول: "كنا نعتقد أن تطور مستوى الحياة سيُخلّصنا من الديني. ولكن الأمر كان خطأ".
يكتب لورون جوفران، مدير صحيفة ليبراسيون، المقربة من اليسار الحاكم، في افتتاحيته عن كتاب دوبريه الأخير، بسخرية مريرة: "إنه كتاب لامع جدًا بحيث يجب قراءته بنظارات سوداء. ولكنه في العمق، يعزف نغمة زملائه الإعلاميين الرجعيين نفسها". ثم لا يتردّد في ضمّه إلى كوكبة من اليمينيين؛ كفيليب موراي وإيريك زمور وناتاشا بولوني ورونو كامو وميشيل ويلبيك وألان فنكلكروت، الذين يكن لهم دوبريه وُدّا كبيرًا.
ثم يضيف جوفران: "كان دوبريه دائمًا الرجل المتذمّر في الفكر الفرنسي. ولكنه هذه المرة تجاوز نفسه. كم من نسيانات، وكم من جلد للذات، وكم من تشاؤم متصنَّع. في نظره، فإن التاريخ ذوّبته العولمة. ولكن ماذا عن التحدي الإسلاموي؟ حدث لطيف، من دون شك، و11 سبتمبر، وحرب العراق وأفغانستان وسورية أو أوكرانيا؟ صراعات مصطنعة".
إلى أن يكتب: "يظن دوبريه أن التاريخ ميّت، لأنه ينسحب منه. إنه خياره. أما نحن، سكان الأرض العاملين في القرن الحادي والعشرين، فسوف نتعلم، على حسابنا، أنه موجودٌ دائمًا، هنا، لا ينضب، ولكنه مُربكٌ وقاسٍ". ثم ينهي افتتاحيته: "آسف، عزيزي ريجيس، إن السيد (ة) التاريخ، شابة دائمًا وحبلى، وسيراها هذا القرن وهي منهمكة في العمل، مرة أخرى. وفي ما يتعلق باليسار، أي التحالف ما بين العدالة والحرية، فسيولد من جديد، لأنه، وبعيدًا عن أخطائه، موجودٌ في قلوب الرجال، شئت أم أبيت".
الإسلام وداعش
يغيظ دوبريه اليسار حين يردّ عن سؤال حول اندماج الإسلام في الجمهورية: "لماذا الإلحاح على ذوبان الإسلام؟ لن يكون الأمر جمهوريًا. الجمهورية تَقبل وتحترم كل المعتقدات". ويفند الأمر أكثر: "كانت الكاثوليكية في خصام مع الديمقراطية خلال قرون، وأخيرا تأقلمتْ معها. فلماذا لا نترقّبُ الشيء نفسه من الإسلام؟ ثمة صعوبة مكمَنُها أن الإسلام بدأ بالنهضة ثم القرون الوسطى، بعدها، أمّا نحن فقد قمنا بالعكس. أعتقد أن العلمانية ستكون متلائمة مع الإسلام. لنمتلك الصبر مع الإسلام. لنكن صبورين وحَذِرين". وقد أثارت تصريحاته الجريئة هذه جدلًا واسعًا في الصحافة الفرنسية، إلا أن كلامه عن داعش، لم يبدُ أقلّ جرأة، خاصّة وأن دوبريه لا يتردّد في التشكيك بحقيقة التنظيم، وكيف لا وهو الخبير المشهود له بأحابيل الإعلام؟: "
رغم كلّ شيء، الكلّ يحبه
بعيدًا عن المواقف والقراءات، وهي كثيرة وليست وليدة الساعة، التي أرادت تصفية الحساب مع الفيلسوف، جاءت قراءة برونو فرابات، مدير التحرير السابق لصحيفة لوموند، الذي يكتب حاليًا في في صحيفة "لاكرْوا"، مفيدة منصفة. فتحت عنوان "دوبريه يميل يمينًا"، طرح برونو سؤالًا جوهريًا: "هل أصبح ريجيس دوبريه رجعيًا بسبب انشغاله بنوعية التعليم في فرنسا وبالغباء الإعلامي ورداءة رجال السياسة وغياب أي اعتبار للأمّة؛ في ما أصبحت عليه ومن أين أتت؟" ثم يجيب: "النزعة التبسيطية السائدة تريد إلحاقه بمعسكر "الانحطاطيين"، هؤلاء المثقفين المحبطين، الذين يصمون آذاننا بنبوءاتهم التدميرية". ويضيف: "ثمة اختلاف كبير بينهم وبينه. إنه فرنسا والعشق الذي يكنّه لها. إننا نجهل من أين أتاه. أمن ديغوليته المتأخرة؟ أمن هوَى الماضي؟ أم من احتقاره الجليدي الذي يسير على ضفاف الأحداث الراهنة؟ أم ببساطة من الثقافة، السلاح المطلق لهذا العقل الضروري؟ دوبريه حريّةٌ لا نجد لها بديلًا".