أفطر السيد الفيلد مارشال "جان بيدل بوكاسا" في حديقة القصر مع صديقه لاعب كرة القدم المشهور الذي يلعب في موقع رأس حربة هجوم منتخب أفريقيا الوسطى.
الإفطار الذي له رائحة شهية للغاية، كان مكوناً من خُصى عشرة من معارضيه السياسيين مقلية بالزيت ومبهّرة بجوزة الطيب ومعصور عليها الليمون، ولحم الضأن المشوي بالفحم والمُطيّب بالفلفل الأحمر، وأطباق متنوعة من البسكويت والعسل والمكسرات، بالإضافة إلى قارورتي نبيذ فرنسي.
بعد أن شبعا، سأل فخامته الضيف عن رأيه في الإفطار الرئاسي، أجابه الأخير وعلى ثغره ابتسامة خفيفة:
- عجيب.
ارتفع الحاجب الأيسر للفيلد مارشال:
- لا.. ليس عجيباً.. هذا يُسمّى الإفطار الفرنسي.. هل تعلم أن الإمبراطور نابليون بونابرت كان يفطر يومياً هذا الإفطار نفسه؟
ضحك نجم المنتخب الوطني:
- نعم فرنسي بكل تأكيد.. ويعلم الرب كم أكل نابليون من خُصى المصريين!
انفرجتْ أسارير "بوكاسا" وأخذ يضحك هو الآخر. كان مسروراً ومستمتعاً بخفة ظل صديقه.
أتت سكرتيرة مكتبه وهي تتمايل وتحمل أكداساً من الورق، انحنتْ وهي تضعها أمامه، وظلت برهة تتلكأ في ترتيب الأضابير، فقرصها وأمرها أن تنصرف.
اقــرأ أيضاً
راح سيادته يستعرضها ورأسه متكئ على راحة يده الشمال. ثم رمى بكراسة منها إلى صديقه الذي يُكن له معزة أكثر من أي شخص آخر في الوجود: "انظر أيّ عمل ممل أقوم به كل صباح.. يا الله لماذا حكمت عليّ أن أكون رئيساً للجمهورية؟". أمسك النجم الكروي بالكراسة، وفوراً أحس بوخزة من دبوس ناشز ثقب الجلد. راقب رأس إصبعه التي تكوّرتْ فيها نقطة دم، فصعدتْ من جوفه مشاعر حزن أقرب ما تكون إلى الندم.
اقــرأ أيضاً
اقــرأ أيضاً
اقــرأ أيضاً
أنزل المارشال "بوكاسا" بنطلونه، وبدأت العجوز الدرداء بممارسة طقوسها السحرية. بجواره وقف صديقه نجم المنتخب الوطني وهو يريه صوراً. العجوز ذات الشعر الكثيف الأشعث بعد أن انتهت من قراءة "ذاك الشيء" تنبأت له بأنه سيصير إمبراطوراً! سُرّ المارشال "بوكاسا" بهذه النبوءة سروراً عظيماً وعدّها قدراً محتوماً.
ومن بعد عبوره ذاك الطقس السحري أخذت الأمور تتغيّر بسرعة.. صنع لنفسه تاجاً مرصعاً بالألماس فاقت كلفته الخمسة ملايين دولار، وأقام حفلاً باذخاً تسبب لاحقاً في إفلاس خزينة البلاد ليعلن تحوّل أفريقيا الوسطى من جمهورية إلى إمبراطورية.
لم يكن يدرك "السيد الإمبراطور المقدس"، وهو لقبه الجديد، أن الساحرة الماكرة "دغونغي" قد حولته إلى أكبر حمار في التاريخ من دون أن يفطن هو نفسه إلى ذلك.
بعد أن شبعا، سأل فخامته الضيف عن رأيه في الإفطار الرئاسي، أجابه الأخير وعلى ثغره ابتسامة خفيفة:
- عجيب.
ارتفع الحاجب الأيسر للفيلد مارشال:
- لا.. ليس عجيباً.. هذا يُسمّى الإفطار الفرنسي.. هل تعلم أن الإمبراطور نابليون بونابرت كان يفطر يومياً هذا الإفطار نفسه؟
ضحك نجم المنتخب الوطني:
- نعم فرنسي بكل تأكيد.. ويعلم الرب كم أكل نابليون من خُصى المصريين!
انفرجتْ أسارير "بوكاسا" وأخذ يضحك هو الآخر. كان مسروراً ومستمتعاً بخفة ظل صديقه.
أتت سكرتيرة مكتبه وهي تتمايل وتحمل أكداساً من الورق، انحنتْ وهي تضعها أمامه، وظلت برهة تتلكأ في ترتيب الأضابير، فقرصها وأمرها أن تنصرف.
راح فخامته يُخلّلُ أسنانه من بقايا الطعام بعود مسنون: "خمّن ما هذا". ارتشف النجم الكروي شرابه ومدّ ذراعه إلى قارورة النبيذ وقد همّ أن يسكب: "الأخبار الواردة من وكالات الأنباء الدولية". مال فخامته على جانبه الأيسر وأطلق ريحاً: "حالة العالم لا تعنيني.. (يتنحنح) هذه التقارير اليومية المرفوعة من الأجهزة الأمنية السبعة التي تحصي كل كلمة وكل حركة يد أو قدم أو حتى رمشة عين في جمهوريتي". صفّر نجم المنتخب الوطني صفارة خافتة، وكانت هذه لازمته للتعبير عن مدى إعجابه وتقديره بـ"الشيء" الذي أثار انفعاله.
راح سيادته يستعرضها ورأسه متكئ على راحة يده الشمال. ثم رمى بكراسة منها إلى صديقه الذي يُكن له معزة أكثر من أي شخص آخر في الوجود: "انظر أيّ عمل ممل أقوم به كل صباح.. يا الله لماذا حكمت عليّ أن أكون رئيساً للجمهورية؟". أمسك النجم الكروي بالكراسة، وفوراً أحس بوخزة من دبوس ناشز ثقب الجلد. راقب رأس إصبعه التي تكوّرتْ فيها نقطة دم، فصعدتْ من جوفه مشاعر حزن أقرب ما تكون إلى الندم.
سأل النجم الكروي فخامته لو لم يكن رئيساً للجمهورية فماذا يتمنى أن يكون، رد عليه بأنه يتمنى لو يكون لاعب كرة قدم بارع مثله. وجّه سعادته السؤال نفسه إلى صديقه، فرد الأخير بكل صراحة بأنه يتمنى لو يكون رئيساً للجمهورية! اعتدل "بوكاسا" في جلسته وقال بجدية ووقار: "لهذا أنا أميل إليك وأنت تميل إليّ.. لأن كل واحد منّا يتمنى في أعماق قلبه لو يكون مكان الآخر". سكب فخامته النبيذ في قدحه وقدح صديقه، وشرد بفكره وأخذ يحتسي النبيذ بصمت. بعد مدة يسيرة تكلم ونظرته مركزة على قعر كأسه الفارغ: "ومع هذا أنت أفضل مني.. يمكن لأي شخص أن يكون رئيساً للجمهورية، ولكن ليس بإمكان أي شخص أن يكون لاعباً ممتازاً في كرة القدم". عقب النجم الكروي ساخراً من نفسه: "والدليل على ذلك أن منتخبنا الوطني لم يفز في أية مباراة منذ تاريخ انضمامي إليه، والهدف الوحيد الذي سجلته كان في مرمانا!". قال فخامته وهو يشير إلى مُحدثه: "لا تقلل من شأنك.. أنا على الأقل أعرف قيمتك ومقدار ما لديك من مهارات". شعر لاعب كرة القدم بضيق غير مفهوم من نفسه فقام بتغيير مجرى الحديث: "هذه أول مرة أعرف أن لدينا جهاز استخبارات الاقتصاد والمال". تعاطى فخامته "القورو" لينشط: "مهمة هذا الجهاز التجسس على ثروات المواطنين.. لقد اخترعته من رأسي، إذ لم يسبقني إليه أحد.. أنا الرئيس الوحيد في العالم الذي يعرف بدقة كم فرنكاً في جيب كل مواطن".
راحا يقرآن التقارير بجدية تامة، وبعد قليل فرقعت ضحكات النجم الكروي، فرفع الرئيس رأسه والفضول يجتاح وجهه. قال النجم الكروي: "استمع إلى هذا البلاغ.. عجوز عمياء يناهز عمرها المائة سنة ظهر لها قرنان في رأسها ونبتت أسنانها من جديد، تمكنت من أن تبيض وتنافس الدجاج.. هاها". رفرف حاجبا سعادته إلى منتصف جبينه: "غير معقول؟!". ناوله النجم الكروي الكراسة: "هاك.. اقرأ بنفسك". مرّ المارشال بنظره على السطور مروراً سريعاً، ثم أزاح الكراسة جانباً وتنهد: "القرويون الملاعين يستغفلون رجالي.. من الواضح أنهم يخبئون دجاجاتهم البيّاضة في مكان ما بعيداً عن العيون". أعطى المارشال لصديقه كراسة ثانية، وانهمكا في القراءة بوقار. وما كادت تمر سوى دقيقة واحدة حتى دوّت القهقهات الطنانة للنجم الكروي. رفع "بوكاسا" رأسه وحدج صديقه بنظرة ملؤها العتب واللوم. راح نجم المنتخب يقرأ من الكراسة: "الساحرة دغونغي حولت عشرين شرطياً إلى حمير، وعندما تمكنت الأجهزة الأمنية من إلقاء القبض عليها قامت بتحويل مدير أمن المنطقة إلى بغل.. هاها". نكس "بوكاسا" رأسه محرجاً: "ليس هناك أي سحر في الموضوع.. وكل ما في الأمر أن تلك المشعوذة قد رأتهم على حقيقتهم.. لأنهم أصلاً مجموعة من الحمير والبغال". قال النجم الكروي وهو يحاول الكف عن الكركرة: "الحقيقة أنا أعرف هذه المرأة.. إنها ساحرة رهيبة وهي قادرة على أن تمسخهم فعلاً.. هاها". قال المارشال مشككاً: "هل تعرفها حقاً؟". قال نجم المنتخب وعيناه تبرقان: "نعم.. بفضلها صرتُ على ما أنا عليه اليوم.. في بداية حياتي كنت أعمل حمالاً عند مقاول بناء وأمارس كرة القدم كهواية، فسمعتُ عنها وقلت في نفسي ما المانع في أن تتنبأ لي بمستقبلي، فذهبتُ إليها وتنبأتْ لي بأنني سأكون أفضل لاعب كرة قدم في أفريقيا الوسطى.. ومن ساعتها قررتُ ترك العمل مع المقاول وأن أطرق أبواب الأندية.. وبالفعل صدقت نبوءتها ووجدتُ طريقي في عالم الكرة مفروشاً بالذهب".
حدق فيه المارشال بنظرة تشي بالحسد: "لا بد لي أن أرى هذه المرأة.. سوف أرسل في طلبها". قال النجم الكروي: "مهلاً سيدي الرئيس.. هناك أمر ينبغي أن تعرفه قبل أن تطلبها". قال المارشال وهو يحك البثور التي لا تكف عن الظهور في جذور لحيته: "ما هو؟". قال النجم الكروي: "لكل واحد من هؤلاء السحرة طريقته الخاصة في التنبؤ.. وبالنسبة لـ دغونغي فإن طريقتها في التنبؤ هي أن تفحص ذاك الشيء ثم تُنبئ الشخص بمستقبله". ابتسم المارشال ابتسامة عريضة جداً: "ولكن هذه طريقتي المفضّلة في التنبؤ! عموماً لديك الحق في التحفظ على طلب إحضارها علنا.. البلد يعج بمخابرات الدول المعادية التي تبحث عن أية غلطة ليشهّروا بي في وسائل الإعلام.. لكن أعتقد أنه يمكنك أن تجلبها إلى هنا في تكتم دون أن يعلم أي أحد". صافح نجم المنتخب الوطني رئيسه وشد على يده، وكانت هذه إشارة إلى أن كل واحد منهما يثق في الآخر.
أنزل المارشال "بوكاسا" بنطلونه، وبدأت العجوز الدرداء بممارسة طقوسها السحرية. بجواره وقف صديقه نجم المنتخب الوطني وهو يريه صوراً. العجوز ذات الشعر الكثيف الأشعث بعد أن انتهت من قراءة "ذاك الشيء" تنبأت له بأنه سيصير إمبراطوراً! سُرّ المارشال "بوكاسا" بهذه النبوءة سروراً عظيماً وعدّها قدراً محتوماً.
ومن بعد عبوره ذاك الطقس السحري أخذت الأمور تتغيّر بسرعة.. صنع لنفسه تاجاً مرصعاً بالألماس فاقت كلفته الخمسة ملايين دولار، وأقام حفلاً باذخاً تسبب لاحقاً في إفلاس خزينة البلاد ليعلن تحوّل أفريقيا الوسطى من جمهورية إلى إمبراطورية.
لم يكن يدرك "السيد الإمبراطور المقدس"، وهو لقبه الجديد، أن الساحرة الماكرة "دغونغي" قد حولته إلى أكبر حمار في التاريخ من دون أن يفطن هو نفسه إلى ذلك.