بينما تتصفح أماني خطاب الحاسي إحدى صفحات الثورة الليبية على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، فجعت وهي ترى صورة شقيقها أنس، المحتجز منذ 13أكتوبر/تشرين الأول الماضي، في سجن الرجمة التابع لمليشيات الكرامة، موثق اليدين، معصوب العينين، مقتولاً برصاصة في الرأس وملقيّاً علي قارعة الطريق.
لم يمارس الحاسي أي نشاط عسكري منذ نهاية ثورة 17 فبراير، "لكن هذا الأمر لم يحل دون اختطافه أثناء ذهابه إلى صلاة الفجر من منتسبي عملية الكرامة، التي يقودها اللواء المتقاعد، خليفة حفتر"، تقول شقيقة أنس لـ"العربي الجديد"، وهي تبكي، فبعد أمل كاذب بثه المختطفون في قلوب العائلة، "فجعنا بمقتله"- تضيف أماني- التي لم تستطع تمالك نفسها أكثر لتنهمر دموعها، وهي تقول "نقلوه إلى مكان سري، تم التحقيق معه ثم أخبرونا أنه بريء، وأنهم يتحفظون عليه فقط حتى تنتهي أحداث بنغازي، وسوف يطلق سراحه، لنجده ملقيّاً على قارعة الطريق، حيث انتشل الهلال الأحمر جثته بعد ثلاثة أيام من مقتله".
قائمة الضحايا ترتفع
قصة أنس ليست الوحيدة، إذ تتشابه وقائعها مع ما جرى لـ"مفتاح بوالنافره" رئيس جمعية خيرية اشتهرت برعاية الأيتام والفقراء في الجبل الأخضر -شمال شرقي ليبيا-، هو الآخر اختطفته مليشيات الكرامة في نفس يوم اختطاف أنس، أيضاً. وصل إلى أهله خبر أنه بريء، تقول الأسرة لـ"العربي الجديد" قالوا لنا: مفتاح متحفظ عليه فقط في سجن الرجمة، من منتسبي الكرامة، قريباً سيكون بيننا، وقد كان، لكنه مقتول في السجن".
خريطة السجون السرية
ارتفاع عدد ضحايا معتقلات وسجون المليشيات في ليبيا يؤكده الناشط الحقوقي طارق لملوم، عضو مؤسسة بلادي الحقوقية المحلية، قائلا لـ"العربي الجديد" رصدنا سجوناً سرية للكرامة في مناطق شحات والرجمة أقصى شمال شرقي ليبيا، المرج والأبيار شرق بنغازي، الزنتان في الغرب الليبي، وآخر حكومي تستغله مليشيا الكرامة، اسمه سجن جرناده التابع لبلدية شحات ـ شمال شرقي ليبيا ـ الذي يعد الأكثر سوءاً في الانتهاكات حتى صار البعض يقول، إن الداخل مفقود والخارج مولود".
بالإضافة إلى السجون السابقة تُستخدم في الإخفاء القسري منازل تابعة لمنتسبي الكرامة خصوصاً في بنغازي، إذ يسجنون في كل مكان يرونه مناسباً معتقليهم، "لكن يظل الأشهر هو معتقل جرناده الرهيب، أما سجون الأبيار والمرج فتستخدم كمقرات احتجاز مؤقته ينقل بعدها المختطفون إلى سجن جرناده المستخدم، سابقاً، في احتجاز السجناء الجنائيين.
لكن عقب ظهور ما تعرف بعملية الكرامة وانحياز بعض مؤسسات الدولة في منطقة الجبل الأخضر لها، أصبحت مليشيات الكرامة تستخدمه في تغييب معارضيها"، حسب إفادة طارق لملوم الذي اختتم حديثه، بأن بنغازي اختفى فيها الكثير من الثوار السابقين أو حتى المواطنين العاديين في عمليات اختطاف وإخفاء في سجون تابعة لما يعرف بعملية الكرامة، والفارق بين عملية وأخرى أن المنتمين إلى قبائل قوية ومعروفة قد يستطيع أهلهم معرفة مكان وجودهم والتفاوض مع الخاطفين، في حين الأطراف الأضعف تعرف أن من اعتقل في هذه السجون السرية من أهلهم، يمكنهم تلقي العزاء فيه".
أبرز سجون الغرب الليبي
في الغرب الليبي تمارس مليشيات الزنتان المتحالفة والمؤيدة لقيادة ما تعرف بعملية الكرامة عمليات اختطاف وإخفاء قسري، في سجون سرية سيئة الصيت، للعديد من مخالفيها، من بينهم أبناء قبيلة المشاشية الذين اختفى الكثير منهم داخل هذه السجون، التي وللمفارقة يقبع في أحدها سيف الإسلام القذافي، معززاً مكرماً، كما نقل ثوار الزنتان الرافضون لتحالف مليشياتهم مع القائمين على عملية الكرامة لـ"العربي الجديد".
داخل سجون الزنتان، أيضاً، لا يزال المستشار، سليمان زوبي، عضو المؤتمر الوطني (البرلمان) محتجزاً بعد تعرضه للاختطاف من مليشيات الزنتان قبل انسحابها من العاصمة طرابلس، بعد هزيمتها أمام قوات فجر ليبيا. زوبي اختطف بعد استيقافه عند أحد الحواجز رغم أنه يعد من أبرز السياسيين علي الساحة الليبية إلا أن خاطفيه سربوا له العديد من الصور من داخل محبسه. فيما تم اغتيال ابنه في مدينة بنغازي بعد اختطافه بأيام لتتفاقم مأساة الأسرة التي رفضت الحديث معنا خوفاً من مقتل والدهم على يد مليشيات الزنتان.
التعذيب قبل القتل
يؤكد أهل الضحايا الذين التقتهم "العربي الجديد" أثناء إعداد التحقيق أن أبناءهم القتلى عقب احتجازهم في سجون الكرامة السرية في شرق وغرب ليبيا تعرضوا للتعذيب صعقاً بالكهرباء وبالسحل والتجويع وصب محلول الملح على جروحهم.
بعضهم الآخر أكد تعرضهم لانتهاكات جنسية، وهو ما يطابق ما نقله لنا طارق لملوم لـ"العربي الجديد" الذي ضرب المثل بحالة الشاب المختطف، مراد البركي، الذي تم خطفه وتعذيبه صعقاً بالكهرباء في مقر احتجاز كتيبة الصاعقة التابعة لقيادة عملية الكرامة، كما تعرض لإطلاق رصاصتين على أقدامه لكن حظه كان أفضل من أغلب الضحايا الذين قتلوا في صمت. ويشتكي لملوم من منع دخول الحقوقيين إلى السجون المسجلة رسميّاً في ليبيا قائلا" ما بالك بالسجون السرية وما يحدث فيها من تعذيب".
يؤكد الشرطي أحمد سعيد -اسم مستعار- أحد منتسبي وزارة الداخلية ومؤيد لما تعرف بعملية الكرامة الحديث السابق عن بشاعة التعذيب الذي تمارسه مليشيات الكرامة، مبرراً إياه، "بأن عدداً كبيراً من منتسبي عملية الكرامة تربطهم قرابة عائلية أو قبلية بأشخاص قتلوا في المواجهات الأخيرة ببنغازي وطرابلس، وهو ما يدفعهم للتشفي والانتقام ممن يقع في أيديهم من خصوم عملية الكرامة ويجعلهم عرضة للفتك والتنكيل" كما يقول لـ"العربي الجديد".
عودة زمن بوسليم
لليبيين تاريخ سيء مع السجون والإخفاء القسري، لا تزال الذاكرة الليبية محملة بعبء ما حدث في سجن "بوسليم" أشهر السجون التاريخية في ليبيا والذي أُنشئ في عهد نظام القذافي عام 1984 واستخدم كمعتقل للمعارضين السياسيين إلى أن وقعت فيه مجزرة بوسليم، إحدى أكبر المجازر الجماعية التي ارتكبها نظام العقيد القذافي، والتي راح ضحيتها نحو 1200 معتقل من الإسلاميين، وقد عد كأحد الأسباب الرئيسية لتثوير الليبيين ودفعهم إلى إسقاط نظام القذافي في 17 فبراير/شباط2011.
يخشى الناشط الحقوقي المقيم في مدينة بنغازي خليل سعد -اسم مستعار- من تكرار ما وقع في بوسليم مرة ثانية على يد مليشيات الكرامة، "التي أعادت ممارسات النظام السابق" كما يقول سعد لـ"العربي الجديد" متابعاً : "لا يزال الليبيون يتذكرون مذبحة بوسليم وتزداد هواجس الخوف لديهم، باستمرار مما تقوم به "الكرامة"، من عمليات اختطاف وإخفاء قسري لخصومها خصوصاً الإسلاميين".
ويؤكد سعد أن قوات الكرامة استعانت بقيادات ومسؤولين تنفيذيين وعسكريين، يجاهرون بولائهم للنظام السابق ولديهم رغبة في الانتقام والتشفي من كل من شارك في ثورة 17فبراير، وهو ما يعد سبباً كافيّاً للخوف من تكرار مذابح بوسليم على يد منتسبي الكرامة وحلفائهم.
رفض قانوني محلي ودولي
أصدر المؤتمر الوطني (البرلمان الليبي) في أبريل/نيسان من العام الماضي قانون يجرّم التعذيب والاختطاف والإخفاء القسري حمل رقم 10 لسنة 2013 نص في مادته الأولى على أن يعاقب بالسجن مدة لا تقل على سبع سنوات كل من خطف إنساناً أو حبسه أو حرمه، على أي وجه من حريته الشخصية بالقوة أو بالتهديد أو بالخداع. كما نص في مادته الثانية علي أن يعاقب بالسجن مدة لا تقل عن خمس سنوات كل من قام بنفسه أو أمر غيره بإلحاق معاناة بدنية أو عقلية بشخص معتقل تحت سيطرته ويعاقب بذات العقوبة كل من سكت على التعذيب رغم قدرته على إيقافه.
وفي مادته الخامسة نص القانون على أن يعاقب العقوبة ذاتها (الواردة في المادة الثانية) كل مسؤول ارتكب هذه الجرائم، قوات تخضع لإمرته أو موظف تابع له، إن لم يتخذ ما يلزم من تدابير لمنع ارتكابها أو كشفها مع قدرته على ذلك أو حال دون عرضها على السلطات المختصة في التحقيق أو المحاكمة. وهو ما يتوافق مع ما أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في 20ديسمبر/كانون الأول 2006 في قراراها رقم 61/177 لتجريم ومنع الإخفاء القسري، مهما كانت الأسباب، ولا يجوز في هذا التذرع بأي حجة، بما في ذلك ادعاء محاربة الإرهاب، (الذي تستخدمه مليشيات الكرامة والزنتان لتبرير حربها، وما يحدث بها من انتهاكات لحقوق الإنسان).
يؤكد أستاذ القانون بجامعة عمر المختار، الدكتور حسين سحيب، على تطابق موقف القانونين المحلي الليبي والدولي أن الممارسات التي ترتكبها المليشيات المسلحة في ليبيا، تشكل جرائم جنائية بموجب أحكام قانون العقوبات الليبي والقانون الدولي، مضيفاً "إن كانت في الفترة الحالية ليست محل ملاحقة قضائية ليبية، لكن مواطنينا يمكنهم ملاحقة المتهمين أمام المحكمة الجنائية الدولية".
حكومة الحاسي ستلاحق المتهمين
يكشف مصدر في حكومة الإنقاذ الوطني الليبية (حكومة عمر الحاسي) لـ"العربي الجديد" أن الحكومة الليبية توثق الجرائم التي ترتكبها مليشيات الكرامة قائلا لـ"العربي الجديد": ستكون محل ملاحقة قضائية، محلية ودولية مستقبلاً، بعد قيام دولة ليبية قوية وتحديد المسؤوليات إذا وجدت أدلة الإدانة".