في الرابع والعشرين من أكتوبر/ تشرين أول 2014، غادر الشاب المقدسي محمد سامي مسلم، منزل عائلته في أطراف مدينة القدس، متوجهاً إلى تركيا، للمشاركة وصديقه في دورة تدريبية، تستمر عدة أيام حول الإطفاء والإنقاذ.
قبل ذلك، لم يُسجل في حياة مسلّم الذي تنقلت عائلته بين أكثر من مكان، أي علامات فارقة، لكن إعدامه على يد تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" (داعش) جعله يتصدر نشرات الأخبار كأول فلسطيني يتم إعدامه على يد التنظيم.
"العربي الجديد" يكشف حقيقة قصة مسلّم وعائلته من عدة مصادر ذات صلة في القدس لمحاولة معرفة القصة الكاملة.
من هنا نبدأ
تقول عائلة مسلّم المقدسية إن اتصالها بابنها انقطع خلال تلك الفترة الفاصلة بين خروجه إلى تركيا، وحتى إعلان داعش قتله، كانت الأيام الخمسة التي تلت ذلك المشهد الذي ظهر فيه طفل يطلق النار على رأسه كفيلة لجعل قصة موت محمد أكثر شهرة من حياته القصيرة الهادئة التي امتدت لتسعة عشر عاماً.
تنظيم "الدولة الإسلامية" كان قد بث مساء العاشر من مارس/آذار الجاري شريطاً مصوراً، استهله بجملة "في دهاليز المخابرات اليهودية على أرض المسرى، قصة بدأت فصولها هناك وانتهت حكايتها بين يدي أحد أشبال الخلافة في دار الإسلام"، لتكون هذه الجملة مقدمة لاعترافات محمد بقصة العمالة لإسرائيل وانضمامه إلى عناصر داعش في سورية، بعد إلقاء القبض عليه على الحدود التركية-السورية، لتتوالى الأحداث التي بثها الشريط تباعاً، وتكون نهاية محمد أن يقتل رمياً برصاص مسدس حملته أنامل طفل من عناصر "داعش".
سامي إسماعيل مسلّم والد محمد، لم يجرؤ هو ووالدته على مشاهدة الشريط كما قالا، لكن الأب الذي استقبل في سرادق العزاء التي أقامها لابنه، المعزين من العرب وجيرانه اليهود في منزله الواقع في مستوطنة بسغات زئيف (تقع في القدس الشرقية)، ظهر نافيا وبشكل قاطع حقيقة الاعترافات التي وردت على لسان ابنه، مشيراً إلى أنها لم تكن سوى اعترافات ملقنة وجاءت تحت تأثير ضغط عناصر التنظيم، مستشهداً في نفيه بتأكيدات وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي موشيه يعالون والتي تناقلتها وسائل الإعلام العبرية بأن لا علاقة للشاب "المقدسي" بالموساد الإسرائيلي، وحسب قوله فإن محمد "ولد" لم يمض على اجتيازه مرحلة الثانوية العامة سوى سنة واحدة، ولا يملك مقومات العمالة بأي شكل من الأشكال.
الشارع المقدسي لم يتعاطف
جاءت ردود الشارع المقدسي على شريط داعش، متباينة ولم تشهد الحادثة اهتماماً أو تفاعلا يذكر، مثل الاهتمام والتعاطف الذي لقيه شريط إعدام الطيار الأردني معاذ الكساسبة.
ويعزو المواطن المقدسي رامي سميح -36 عاماً- انحسار ردود الأفعال التي أعقبت إعلان قتل داعش مسلّم إلى ربط داعش عملية إعدامه بشبهة التعامل مع جهاز الموساد الإسرائيلي.
ويعتبر سميح أن البزة العسكرية الإسرائيلية الذي ظهر شقيق محمد في الشريط؛ وهو يرتديها ومكان إقامة العائلة في مستوطنة إسرائيلية، وعدم اختلاط الأبناء بالشبان العرب من جيلهم، كلها عوامل ضاعفت من عدم إيلاء المقدسيين أهمية للموضوع، وتساءل رامي الذي أظهر ريبته وعدم اقتناعه بشكل كامل بالشريط، كيف لمحمد أن يكون محتجزاً أو منضماً لعناصر داعش ويتواصل مع عائلته عبر وسائل التواصل الاجتماعي والهاتف بهذه سهولة؟!" وختم قائلاً: "محمد اختار البداية لكن النهاية لم تكن بيده، ولا بد أن يدفع كل شخص ثمن أفعاله".
أما الناشطة الشبابية المقدسية يارا يعيش -26 عاماً- فقالت: "منذ متى ونحن ننتظر الآخرين ليقضوا على العمالة؟ الشعب الفلسطيني أثبت قدرته على دحر العملاء، والشارع المقدسي اليوم يمر بأزمة البقاء وتوفير لقمة العيش والحفاظ على هويته الفلسطينية التي نستها القيادة، وبالرغم من الشبهات التي تحيط بالعائلة، لكننا لا نستطيع أن نبرر لداعش أفعاله".
رأي ثالث جاء على لسان الصحافية شيرين صندوقة، التي اعتبرت الشريط المصور ما هو إلا محاولة من "داعش" لبث الفتنة بين صفوف أبناء القدس، وتشتيت أنظارهم عن المشاريع "الصهيوأمريكية" الجديدة التي من المزمع تنفيذها في القدس.
والد قتيل داعش يرد
في معرض رده على آراء الشارع المقدسي، قال سامي مسلّم الذي يعمل سائق حافلة في شركة "إيجد" الإسرائيلية: "أنا رجل أعمل سائق حافلة، أخرج لعملي في تمام الرابعة والنصف فجراً ولا أعود قبل السادسة مساءً، عائلتي هي كل شيء في حياتي، علاقتي طيبة مع جيراني اليهود"، ويبرر مسلّم سكنه في مستوطنة إسرائيلية بارتفاع أسعار أجرة العقارات وعدم توفر منازل ملائمة للسكن في القدس الشرقية، علماً أنه اشترى منزله في المستوطنة قبل خمسة عشر عاماً عن طريق البنك مقابل 130 ألف دولار أميركي.
لكن المفارقة تكمن في كيفية مقدرة سامي مسلّم على دفع هذا المبلغ، وعدم مقدرته على دفع أجرة بيت في أحد الأحياء العربية التي مهما ارتفعت أسعارها تبقى ضمن المعقول وأقل من أجرة العقارات في القدس الغربية، والسؤال الثاني المثير للجدل كيف لحكومة الاحتلال أن تسمح لفلسطيني التملك في منطقة تحت سيطرتها؛ وهي التي تسعى جاهدة للاستيلاء على عقارات المقدسيين؟
تحليل صورة الإعدام
في كل الحالات التي نفذت فيها فرق إعدام تنظيم الدولة الإسلامية رهائن لديها، كانت تربط تلك الإعدامات بالدول التي يحمل الرهائن جنسيتها، وتشارك في حملة التحالف الدولي ضد التنظيم.
وهـذه المرة الأولى التي يقول فيها التنظيم الذي يتولى السيطرة على أجزاء من الأراضي العراقية والسورية إنه أعدم رهينة على خلفية ارتباطها بأجهزة المخابرات الإسرائيلية، وإعدام مسلّم الذي لم يتضح أين وقع بالضبط داخل الأراضي السورية، جرى هذه المرة بتقنية وأدوات مختلفة عن المرات السابقة التي أعدم فيها داعش رهائنه بالقتل ذبحاً أو حرقاً، إذ ظهر الطفل كوجه جديد في حلقات مسلسل الإعدامات التي ينفذها التنظيم.
وفي هذا الجانب يقول والد الشاب مسلّم إنه سيذهب إلى عمله مرفوع الرأس غير آبه بما يتناقله الناس من حديث، فابنه كان ذو سمعة طيبة بين أقرانه وكل من عرفه، ويضيف: "تأثر محمد جداً ببشاعة الجرائم في حرب غزة الأخيرة والتي ارتكبها الطرفان ضد بعضهم البعض، وقد قام محمد بتقديم المساعدة المالية لعائلة غزية التقى بها صدفة خلال تواجد أخيه في المشفى لإجراء عملية".
تساؤلات بلا إجابة
أثارت قصة محمد مسلّم مجموعة من التساؤلات التي احتاجت إلى إجابات شافية، ومنها كيف لأسرة أصلها من مدينة يافا، وانتقلت بعد التهجير إلى رام الله لتسكن قريتي بيتين ودير دبوان، أن تحصل على الجنسية الإسرائيلية، وتسكن مستوطنة إسرائيلية، وتعيش جنباً إلى جنب مع اليهود؟ لكن الجواب علن هذا السؤال جاء على لسان سامي الذي يؤكد زيجته من ابنة عمته التي تسكن مدينة بئر السبع جنوب فلسطين المحتلة، والتي تبعها منحه الهوية الإسرائيلية بموجب قانون "لم الشمل" في العام 1995 لكنه انفصل عنها لاحقاً، وهي الزوجة الثانية لمسلّم والتي اقترن فيها بعد زواجه من أم أولاده الأربعة سعيد، وإسماعيل، ومحمد وأمير في العام 1984، وبالتالي فإن حصوله على الهوية الإسرائيلية سهّل عليه منحه وأبناءه الإقامة والجنسية الإسرائيلية لاحقاً.
وفي تحليل لأحد الحقوقين المقدسيين الذي فضل عدم ذكر اسمه، فإن مسوغات منح إسرائيل جنسيتها لأي شخص؛ هي إما أن يطلبها الشخص بنفسه إذا رغب وتمنح له بعد استيفائه الشروط؛ والتي تتمثل بإثباته أنه مقيم بشكل دائم داخل حدود إسرائيل، ولديه عمل ودخل ثابتان.
ويشير الحقوقي إلى اهتمام الحكومة الإسرائيلية بمنح هذه الجنسية لمن يمتهنون وظائف مميزة كالطب والهندسة؛ وهذا من باب أن يكون أبناء شعبها من النخبة.
أما المسوغ الثاني فيتمثل بالزواج، إذ يمكن لمواطن من حملة الهوية الفلسطينية الحصول على الهوية الإسرائيلية، إذا ما تزوج بفتاة تعيش داخل حدود دولة الاحتلال، ومن ثم وإذا ما استوفى الشروط السابق ذكرها يمكن له الحصول على الجنسية، علماً أن مسلّم قدم عدة روايات متناقضة في هذا الجانب.
مسوغ ثالث للحصول على الجنسية الإسرائيلية؛ يتمثل وفقاً للحقوقي بمنحها لمن له مساهمات أمنية أي التخابر والعمالة لدولة الاحتلال!
هذا وكانت مؤسسة الفرقان للإنتاج الإعلامي قد ضمنت الشريط المصور الذي أظهرت فيه إعدام الشاب مسلّم، أسماء لثلاثة عشر مقدسياً قالت إنهم عملاء للموساد الإسرائيلي، وقد تعذر على "العربي الجديد" الوصول إليهم، لكن ووفقاً لما تداوله المقدسيون حولهم فإن جميعهم يسكنون في أحياء يهودية يطلق عليها أحياء العملاء؛ وهم معروفون للعرب واليهود من سكان المدينة بتعاونهم مع الاحتلال، ومنهم من يعمل كشرطي في صفوف شرطة الاحتلال، ويكثف من تواجده على مدخل بلدة العيسوية شمالي شرق القدس المحتلة، وقد خلق تواجده الكثير من المشاكل مع أبناء البلدة الذين لم يتوانوا عن التعارك معه في عدة مرات، في حين قدم طلاب التجمع الوطني العربي في الجامعة العبرية شكوى لإدارة الجامعة ضد حارس إحدى بوابات الحرم الجامعي؛ وهو عربي سجلت له العديد من مواقف التحرش ضد الفتيات العربيات في محاولة منه لإسقاطهن، لتقوم الجامعة بنقله للعمل على بوابة ثانية، لكن كثرة التعليقات على سلوكه من قبل الطلاب دعته لترك العمل، هذا ويكتفي المقدسيون بالسلوك المشبوه لهؤلاء الأشخاص، وسكنهم في مناطق يهودية وحملهم الجنسية الإسرائيلية لاعتبارهم عملاء لدولة الاحتلال.