تبدأ القصة باختصار بعد فض رابعة، بعد أن عصفت الاعتقالات والمطاردات بأعضاء مكتب الإرشاد، فتشكلت من الباقين منهم مع قيادات تم تصعيدها، ما يسمى بـ"لجنة إدارة الأزمة" أو "اللجنة الإدارية العليا"، وهي ما أصبح يُعرف بـ"القيادة الجديدة" للإخوان، والتي قالت إن شرعيتها تستند لانتخابات انعقدت في فبراير/شباط 2014، وأطاحت الدكتور محمود حسين أمين عام الجماعة، وشكلت أيضاً "مكتب الإخوان بالخارج".
فجأة في مايو/أيار 2015، وبعد تصاعد الخلاف حول مسألة السلمية أو "النهج الثوري"، بعد مقال عضو الإرشاد محمود غزلان العائد من الغيبة الطويلة، ظهر د.محمود عزت بدوره، ليعلن توليه منصب القائم بأعمال المرشد بموجب كونه أكبر الأعضاء سناً حسب اللائحة، وأنه عقد اجتماعاً لمكتب الإرشاد، وقرر عزل المخالفين لمنهج الجماعة، بمعاونة د.محمود حسين الذي صمم أنه مازال الأمين العام، ليبدأ الصراع بين القيادتين.
اقرأ أيضاً: بالوثائق.. هكذا روّج السيسي نظامه في "كي ستريت"
أسطورة "القيادة الجديدة"
تقول الأسطورة إن القيادة الجديدة هي الممثلة لشباب الجماعة في مواجهة "العواجيز"، مع الإشارة طبعاً للمتحدث الشاب محمد منتصر، لكن أليست هذه القيادة الجديدة هي من ترأسها ووضع توجهها طه وهدان، عضو مكتب الإرشاد مسؤول التربية، وما أدراك ما قسم التربية، وبعد اعتقاله قادها عضو مكتب الإرشاد محمد كمال؟
أليس رموزها منهم د.علي بطيخ، د.عمرو دراج، يحيي حامد، د.جمال حشمت، رئيس البرلمان الشرعي طبعاً، حمزة زوبع، أشرف عبدالغفار ..الخ؟
واضح فعلاً أنها قيادة شابة جداً وجديدة جداً، نسمع أسماءهم للمرة الأولى في حياتنا!
اقرأ أيضا: انشقاقات الإخوان.. سراب يحسبه الظمآن ماءً
أسطورة "يا فاشل .. يا فاشل"
يُقال، أيضاً، إن القيادة القديمة هي المسؤولة عن الفشل الذي أدى إلى سقوط مرسي، لكن كما أسلفنا فإن رؤوس القيادة الجديدة كانوا، أيضاً، بنفس مواضع المسؤولية بالضبط، ولا أفهم فعلاً كيف يُلام رموز أحد الفريقين دون الآخر على مسار ما قبل عزل مرسي.
بل إن القيادة الجديدة انفردت بتولي المسؤولية حتى مايو/أيار 2015، ما هو النجاح الرائع الذي حققه الجدد في هذه الفترة، بما يختلف عن فشل منافسيهم؟
اقرأ أيضاً: مصر.."العربي الجديد" يكشف من هو والد قاضي "الرشوة الجنسية"
شباب الإخوان.. من أنتم؟
الأسطورة القديمة كانت تحكي عن شباب الإخوان العاقل الهادئ، الذي يحترم التيارات الأخرى ويتعاون معهم، ويقدم خطاباً تقدمياً وطنياً جامعاً، وهو ما كان صحيحاً "نسبياً"، لو كنا نعني الشباب الذين تولوا مسؤوليات الجامعات وغيرها قبل الثورة، خصوصاً فترة من عام 2005: عام 2011، لكن الجماعة فصلت هؤلاء في مذابح داخلية، أبرزها سحق مرتكبي كبائر الانتماء لحزب التيار المصري، أو لحملة أبوالفتوح.
"شباب الإخوان"، الآن، وبلا تعميم مطلق، يُظهرون ميلاً للتشدد الفكري والعنف الحركي أكثر من قادتهم، لم يعد النموذج هم الشباب اللطيف ممثلو الإخوان بائتلاف شباب الثورة، الذين تبرأت منهم الجماعة مبكراً بعد جمعة 27 مايو/أيار 2011، بل النموذج الأكثر انتشاراً حالياً هو الأخ المتحمس صاحب صيحة "جبنة نستو يا معفنين" في فض اعتصام الاتحادية.
القيادات شحنت الشباب فكرياً وسياسياً، وسحقت أي صوت مختلف، ثم لم يعودوا قادرين، أو حتى راغبين، في الوقوف أمامهم.
اقرأ أيضاً: بانتظار المصالحة مع الرئيس المؤمن صدقي صبحي
حصيلة المراجعات.. صفر
لا أفهم لماذا سخر معارضو محمود حسين من كلامه عن لجان تحقيق بالمسار الفاشل لم ينته عملها، قيادتكم "الجديدة" أيضاً لم تفعل ذلك، حتى الآن، لا يوجد أي مراجعة رسمية من كلا الطرفين.
الأكثر بؤساً، أن أغلب، وليس كل تعليقات شباب كلا المعسكرين بمواقع التواصل تقدم صورة مرعبة، فالمراجعة الرئيسية ليست مثلاً أننا دمرنا الجماعة بدمجها الكامل في الذراع السياسية، أو مثلاً أننا أضعنا فرصة التحالف مع غيرنا والاستقواء بالشعب ضد النظام القديم، على الرغم من أننا تاريخياً كنا أقرب للتيار المدني، ورحم الله بيان التغيير.
بل "المراجعة" هي أن مرسي كان أقل حزماً، كان علينا قمع المعارضين، اعتقال حمدين والبرادعي، إغلاق القنوات واعتقال الإعلاميين، تشكيل قوة مسلحة بقرار جمهوري كالحرس الثوري الإيراني أو القوة التنفيذية لحماس. مرسي، أيضاً، جامل العلمانيين كثيراً، كان عليه إعلان تطبيق الشريعة الإسلامية، وهذا صدى لما كان يُقوله بعضهم على منصة رابعة، إن الثورة هذه المرة ستكون إسلامية.
اقرأ أيضاً: مصر.. 3 تناقضات في عمل لجنة حصر أموال الإخوان
الإدارة الداخلية.. أعجب نظام في العالم
التشوه الإداري لدى الإخوان أصيل ومتجذر ومدهش، أول ملامحه أنه ليس من حق كل الإخوان الانتخاب، فالأخوة في مراتب مُحب، ومؤيد، ومُنتسب ليس لهم أيّ حقوق، بينما الانتخاب للأعضاء بمراتب عامل ومنتظم.
وكثيراً ما فوجئ شباب مسكين، كان ينتظم تماماً في الأسر، ويضحي في الأعمال، وقد يُعتقل، أنه مجرد "مُحب" لا ينتمي للجماعة أصلاً، وفي هذا مواقف وقصص مذهلة ممن صُدموا فجأة بعبارة "أنت لسه مدخلتش الإخوان أساساً!".
وعملية التصعيد معاييرها ليست الكفاءة والأفكار، بل تقارير عن الالتزام الخلقي والالتزام التنظيمي، ولبعض المسؤولين في هذا اختبارات مدهشة وبائسة ليتأكدوا من سمع وطاعة الأخ.
التشوه الثاني، هو أنه لا توجد انتخابات مباشرة من القاعدة للقمة، بل انتخابات تصعيدية، فينتخب الإخوة أعضاء مجالس شورى المحافظات فقط، وهؤلاء بدورهم ينتخبون من بينهم المكاتب الإدارية للمحافظات، وأيضاً ينتخبون مجلس الشورى العام (90 عضواً)، وهؤلاء، أخيراً، ينتخبون منهم أعضاء مكتب الإرشاد (16 عضواً)، وهؤلاء ينتخبون في ما بينهم المرشد والأمين العام ومسؤولي الأقسام المركزية.
وبالمناسبة قرار المشاركة بانتخابات الرئاسة جاء فقط بتصويت مجلس الشورى، الذي رفض الفكرة على الرغم من كل تشوهاته، مما دفع المجموعة المسيطرة لإعادة التصويت مرتين، تزامن معهما زيارات شخصية لمنازل الأعضاء فرداً فرداً، حتى انتزع خيرت الشاطر الموافقة في المرة الثالثة بالكاد. لماذا لم يعقدوا استفتاء عاماً بين الأعضاء الذين سيكونون أول المتأثرين والمُضحين؟!
التشوه الثالث المدهش، هو أنه لا توجد انتخابات أصلاً بالشكل المفهوم، بمعنى أن يترشح من يرى في نفسه الكفاءة للمناصب، ويعرض كل منهم على الناخبين أفكارهم وبرامجهم المستقبلية، ثم يتم انتخابهم على أساسها.
داخل الإخوان القاعدة العجيبة هي أنه "كلنا مرشحون وكلنا منتخبون"، لأنه لا يجوز "طلب الإمارة"!، وتأثير ذلك يظهر بشكل رئيسي بانتخابات الشورى والإرشاد، حيث قد يسمع الأخ لأول مرة في حياته أسماء هؤلاء القادمين من محافظات أخرى، دون وجود أي معرفة ترجح أحدهم، وبالتالي ما كان يحدث فعلياً، هو أن الانتخابات يتم توجيهها على يد المجموعة المسيطرة، تحالف محمود عزت/خيرت الشاطر، سواء بالتربيطات والعلاقات والتوجيهات المباشرة، أو بتعيين أشخاص موالين لهم بشكل مباشر، فاللائحة رسمياً تعطي مكتب الإرشاد حق تعيين 3 أعضاء ضمن هيئته ليصبح عدده 19 عضواً، 15 عضواً للشورى العام ويتم العدد 105، بالإضافة إلى تعيين خُمس مجالس شورى المحافظات. (خطورة التلاعب تتضح إذا عرفنا مثلاً أن محمد مرسي تم تعيينه بلا انتخابات عام 2003 بمكتب الإرشاد متجاوزاً عشرات أو مئات الأسماء الأهم، ثم تم تعيينه رئيساً لكتلة الإخوان بالبرلمان).
وسيلة أخرى للتلاعب هي صناعة الرموز، فقسم التربية يختار أشخاصاً محددين هم من يذهب للمحافظات للحديث في الأنشطة والمعسكرات، فيُعرف هؤلاء الأشخاص أكثر، ليكون طبيعياً أن يُنتخبوا بعدها. (مثلاً كان مرسي ضيفاً دائماً، بينما كان هناك حظر شامل وصارم على دعوة أبوالفتوح، ليس من حق الأعضاء أن يسمعوا وجهات النظر المختلفة داخل التنظيم الواحد، وفي إحدى المرات أحيل للتحقيق مسؤول معسكر ارتكب جريمة دعوة أبوالفتوح عضو مكتب الإرشاد!).
التشوه الرابع، إن الثقافة السائدة هي أن المناصب لتكريم الإخوة الأكبر سناً أو الأطول سنوات سجناً، بغض النظر تماماً عن الكفاءة أو تقييم الإنجاز. لم يكن توجيه الانتخابات هو فقط سبب بقاء بعض الأشخاص أكثر من عشرين عاماً في مناصبهم بالشورى والإرشاد، بل كانت ثقافة راسخة تنال رضا القاعدة فعلاً.
المحصلة كانت أن مصير مئات الآلاف أصبح مرهوناً بمعلومات وقرارات ونفسيات بضعة أشخاص.
قيادات كلا المعسكرين المتنازعين حالياً نتاج هذه التشوهات كلها، وكلاهما سحق من طالبوا بعد الثورة بتغيير هذا النظام الانتخابي العقيم، بعد زوال حجة الأعذار الأمنية، وعقد مؤتمر شورى عام علني كالمؤتمرات الستة التي عقدها حسن البنا.
وقيادات كلا المعسكرين استخدموا نفس المنظومة الخَربة لتمرير توجهاتهم، وكلاهما استخدم الأساليب التي خَبروها في الهيمنة الإدارية والتلاعب باللوائح، وكلاهما يتنافس حالياً على استمالة أعضاء المكاتب الإدارية للمحافظات، ليعطي إيحاءً أنه يسيطر على المحافظة كلها، على الرغم من أن الكثير من عوام الأعضاء لا يعرف أصلاً مكتب محافظته لأي قيادة يتبع، (وبالمناسبة نفس النظام العجيب هو ما تم تنفيذه في الانتخابات الداخلية التي تمت في تركيا).
اقرأ أيضاً: نجيب سويرس.. 5 أوجه صادمة للباكي على حال السوريين
الأفق السياسي.. طريقك مسدودٌ مسدود
الطرح السياسي لكلا الفريقين متماثل تماماً، كلاهما يؤكد استمرار الجماعة بنفس شكلها ومجالات عملها، ويرفض أي نقاش حول ذلك، وكلاهما يؤكد أن هدفه إسقاط الانقلاب، وعودة مرسي، ومحاكمة أو على الأقل مقاطعة المشاركين في 30 يونيو.
الاختلاف فقط في الأسلوب، "القديمة" تطرح الحِراك السلمي الكامل، بينما "الجديدة" تراوغ طيلة الوقت بأنها تتبنى "النهج الثوري"، دون حديث صريح عن معناه، أو تقديم أي خطاب صريح يؤكد أو ينفي تشكيل اللجان النوعية وأعمالها العنيفة.
في وقت سابق انزلق متحدثو "الجديدة" لتصريحات واضحة، مثلاً د.أشرف عبدالغفار. قال: إن "السلمية المبدعة" تشمل تفجير أبراج الكهرباء. أكرم كساب، قال: إن القضاة الذين يصدرون أحكام الإعدام حكمهم القتل. بيان الكنانة يتحدث عن حكم القصاص على "الإعلاميين والسياسيين المحرضين" ..الخ.
الآن عادت رموز "الجديدة" لتتجاهل هذا الأمر تماماً، أو حتى بعضهم نفاه أصلاً، كالشيخ عصام تليمة، عضو مجلس شورى تركيا، الذي قال: كلاهما متفق على السلمية، كأن كل هذه المقالات والبيانات والقنابل هواء.
وعلى كل حال، كلا الأسلوبين لم ينجح، حتى الآن، المظاهرات تراجعت بشدة، وفشلت تماماً في اجتذاب غير الإخوان إليها، وأعمال العنف، أيضاً، تراجعت تماماً.
اقرأ أيضاً: مصر.. أغرب 10 تصريحات لجنرالات 30 يونيو
الأفكار.. نفس التراب
لا يوجد أي اختلاف فكري حقيقي بين كلا المعسكرين، كلاهما ينطلق من أدبيات حسن البنا القديمة (منشأ الجماعة عام 1928)، ويؤكد أنه من يمثلها أكثر من الآخر، كلاهما يستخدم نفس الألفاظ بالضبط في المزايدة على خصمه، كلاهما متمسك بهدف الجماعة الأسمى وهو تطبيق الشريعة في دولة إسلامية دون توضيح أي تفاصيل لتصورهما عن ذلك، ثم الوصول إلى "أستاذية العالم" بإعادة الخلافة.
الجماعة توقفت عن إنتاج الأفكار، منذ عشرات السنين، وساعد على ذلك مناهج داخلية شديدة البؤس، حتى الغزالي والقرضاوي لا تُدرس كلمة واحدة من كتبهم داخل الجماعة.
لا أحد في الفريقين قرر طرح أي منتج فكري جديد لإزالة بعض التراب عن كل هذا الركام التنظيري، الذي يُضاف للركام الإداري، والسياسي، والنفسي، والاجتماعي. الخلاف بينهما فقط على الصلاحيات الإدارية والنفوذ الداخلي، وعلى بعض الأساليب المختلفة.
السيفان صَدِئان متهالكان، كلاهما فقد قدرته على القطع، وكلاهما فقد الاتجاه، وآن لهما أن يعودا إلى أغمادهما إلى الأبد.
--------
اقرأ أيضاً:
"أمنجية" الجالية المصرية في واشنطن.. "تنظيم الخارج"