داخل محل صغير لبيع ملابس الأطفال، في شارع شامبليون الشهير بمنطقة وسط البلد في القاهرة، أخذ الأربعيني سيد عامر (اسم مستعار)، يدوّن أسعار العملات الأجنبية في ورقة أمامه، ينقلها عن طرف آخر، يهاتفه عبر أحد برامج الاتصال الحديثة.
الشاب الأربعيني الذي يبدأ نشاط محله التجاري خلال الفترة المسائية، كان المحطة الأخيرة لجولة ميدانية خاضها معد التحقيق، في منطقة وسط البلد، بحثاً عن أعلى سعر لبيع 1000 دولار أميركي، بعد أن ذاع صيته مؤخراً، كصاحب أعلى وأفضل سعر صرف لمن يرغبون في بيع دولاراتهم في منطقة وسط العاصمة.
السوق السوداء
يُحدد القانون رقم 88 لسنة 2003 الخاص بالبنك المركزي والجهاز المصرفي والنقد، الحالات التي يُعاقب بموجبها من يتاجرون بالعملات الأجنبية وهي: «الاتجار في العملات الأجنبية خارج القنوات الشرعية على مستوى الجمهورية، وقد حددت القنوات الشرعية في البنوك المعتمدة للتعامل بالنقد الأجنبي، وكذلك شركات الصرافة والجهات التي يرخص لها بهذا التعامل من محافظ البنك المركزي، إعمالاً لنص المادتين رقمي 111، 114 من القانون رقم 88 لسنة 2003»، كذلك «الممارسات الخاطئة لشركات الصرافة بالمخالفة للقواعد والإجراءات التي يحددها مجلس إدارة البنك المـركزي، وتجـاوزات المسؤولين لأحكام قانون النقد، إعمالا لنص المادة 114 من القانون ذاته».
"بسبب الخوف من القانون السابق"، يتعامل جلال أحمد، (اسم مستعار) لتاجر عملة في منطقة وسط البلد، بحذر شديد خاصة مع الغرباء، وهو ما بدا في تصرفاته المتشككة، قبل أن يطمئن قليلاً بعد إبلاغه بوسيط بينه وبين التاجر صلة قرابة، قام بتزكيته على اعتبار أنه يقدم أفضل سعر للدولار.
عقب السؤال عن كمية الدولارات المراد بيعها، طلب جلال من معد التحقيق السير وراءه في ممر ضيق متوجهاً إلى مخرن تابع لمحله لبيع الملابس النسائية، تاركاً وراءه مساعده، قبل أن ينتقل رفقة معد التحقيق إلى المخزن الذي يبعد 5 دقائق سيراً بالأقدام عن المحل التجاري، ومن بين أكوام الملابس أخرج تاجر العملة، آلة حسابية، بعد أن اطمأن إلى وجود أحد العاملين معه أمام باب المخزن يراقب الحركة خارجه، برر جلال تواجد مساعده بالخارج بالقول: "النظام يحاربنا في تجارتنا، والنضورجي خارج المخزن بيراقب الحركة تحسباً لأي تواجد مُريب لعناصر مدسوسة، رغم أننا بنطلع إكراميات لمخبري المنطقة".
جلال وعامر ليسا حالة استثنائية بين تجار العملة داخل السوق السوداء في مصر، إذ وثق معد التحقيق خلال جولته الميدانية وجود 10 تجار عملة، في ثلاثة مقاهٍ بوسط البلد، "حتى صارت المنطقة سوقاً سوداء كبيرة"، كما يقول محمد خالد، محاسب وأحد أبناء المنطقة.
ضمن جولته وثق معد التحقيق متاجرة عدد من البائعين الجائلين ممن يفترشون المنطقة، ويضعون بضاعتهم بين الممرات الضيقة لمنطقة وسط البلد، في تجارة الدولار، إذ يتبادلون أرقامهم هواتفهم مع الراغبين في بيع أو شراء العملة الأجنبية، وتتم عملية البيع في مقاهي وسط البلد.
ويبلغ سعر الصرف الرسمي للدولار في البنوك 8.83 جنيهات للشراء و8.88 للبيع، بينما يبلغ سعره داخل شركات الصرافة 10.50 و10.80 جنيهات، فيما تراوح السعر المتداول له في السوق السوادء بين 10.60 إلى 11 جنيهاً.
وشهد سعر صرف الدولار تفاوتاً كبيراً خلال أعوام ما بعد ثورة 25 يناير، إذ انتقل سعر الدولار من 5.933 جنيهات في عام 2011، إلى 6.056 في 2012 ثم ارتفع إلى 6.899 جنيهات في نهاية ديسمبر/ كانون الأول من عام 2013، حتى استقر عند 7.73 في يوليو/ تموز 2015، وظل ثابتا نحو 3 أشهر، وبعدها ارتفع إلى 7.783 في نهاية 2015، قبل أن تنخفض قيمة الجنيه مُجدداً بـ 1.12 جنيه، في مارس/ آذار 2016 ليصل الدولار لأول مرة في تاريخه إلى 8.85 جنيهات ويستقر عند هذه القيمة إلى الآن.
تمدد السوق السوداء خارج مصر
تمددت السوق السوداء للدولار خارج مصر، كما وثق معد التحقيق، إذ دخل على خط التجارة مصريون يعيشون في دول الخليج، يقومون بشراء الدولار بالسعر الثابت في هذه الدول ومن ثم بيعه في مصر، لحصد فارق السعر، كما يقول الطبيب المصري بهاء عفيفي، والذي يعمل داخل مستشفى حكومي بالمملكة العربية السعودية منذ 20 عاماً.
يقول عفيفي: "القفزات الكبرى التي حققها الدولار مؤخراً ساهمت في توجه عدد من المصريين العاملين في الخارج لبيع ما بحوزتهم من دولارات، مقابل عمولات تصل إلى 5% و7% على المبالغ التي يوفرونها لشركات صرافة مصرية تتعامل معهم، خاصة بعد التلويح بأننا إذا ما حولنا المبالغ المالية عبر البنوك المصرية سيتعذر علينا سحبها بعد ذلك".
يتابع عفيفي "بعض المصريين في الخارج يقومون بتحويل مبالغ كبيرة لذويهم ويرغبون أن تتم العملية بأعلى سعر، من أجل تسليم قيمة الدولارات إلى أقاربهم في الداخل، بعيدا عن السعر الرسمي، هنا تتدخل هذه الشركات وتعمل كوسيط بين الطرفين مقابل نسبة تحصل عليها من المرسل".
ويتطابق حديث الطبيب المصري المُقيم في الخارج مع الأرقام المُعلنة من جانب البنك المركزي المصري بشأن تحويلات المصريين في الخارج مؤخراً، إذ بلغت النسبة الإجمالية لتخلي العاملين في الخارج عن دولاراتهم للقطاع المصرفي نحو 75% خلال الفترة ما بين 2003 إلى 2010، ما انعكس على سعر الدولار الذي ظلت قيمته ثابتة عند 6.20 جنيهات لمدة 7 سنوات في السوق الرسمية، أو السوق الموازية (في مكاتب الصرافات)، فيما تراجعت التحويلات بنحو 10.6% خلال النصف الأول من العام المالي 2015 /2016، لتسجل 8.3 مليارات دولار بدلاً من 9.4 مليارات دولار خلال نفس الفترة من العام المالي السابق، أي أنها انخفضت بنحو 1.1 مليار دولار.
شركات الصرافة: المركزي ينتقم
"بسبب ثبوت تلاعبها بسوق الصرف والمضاربة على الدولار بالسوق الموازية"، شطب البنك المركزي المصري تراخيص 9 شركات صرافة شطباً نهائياً من السوق المصرية، قبل نحو 10 أيام، وفقا لما أعلنه جمال نجم نائب محافظ البنك المركزي، وهو ما يراه هاني جنينة، رئيس قطاع الأسهم في شركة بلتون فايننشال، "إجراء لم يمنع السوق السوداء من استمرار عملها في المضاربة على الدولار، ولم يخفض قيمة الدولار أمام الجنيه"، إذ يمكن لهذه الشركات أن تنتقل لممارسة عملها في أماكن خفية. يقول جنينة لـ"العربي الجديد": "لا تزال بعض هذه الشركات تقوم بعمليات البيع بالرغم من إغلاقها، إذ تخاطب المستوردين، وتعرض عليهم توفير الدولار".
يؤكد جنينة أن المواطن المصري صار فاعلاً ومتفاعلاً مع السوق السوداء في التعاملات اليومية لحائزي العملة الصعبة، موضحاً أن فكرة القضاء التام على السوق السوداء مسألة شديدة الصعوبة، لأن ذلك سيتطلب حجم احتياطي ضخماً ليس متوفراً في خزينة مصر الحالية.
وذكر جنينة أن أسباب نمو السوق السوداء في الفترة الأخيرة، تعود إلى زيادة الاستيراد بسبب اقتراب شهر رمضان، وتوجه بعض التجار لاستيراد بعض المنتجات بسبب انخفاض سعرها بمخزون كبير يكفي لاحتياجات عام بالكامل، هو ما ترافق مع المضاربات في السوق السوداء للرغبة في المزيد من الربح وكذلك الإجراءات التقييدية على سحب الودائع الدولارية، وهو ما خلق مخاوف لدى المودعين، بالإضافة إلى تراجع دور البنك المركزي في تمويل الاعتمادات المستندية، والشهادت الادخارية المحلية للدولار ذات العائد المرتفع التي أدت إلى المضاربة على سعر صرف الدولار وشرائه من السوق سواء عن طريق الأموال الخاصة أو الاقتراض، إلى جانب الشائعات التي انتشرت عن اقتراض البنك المركزي من مدخرات المواطنين الدولارية ولجوء قطاع آخر من المتعاملين للتخلي عن الجنيه واستبداله بالدولار للتحوط من التراجع المستمر في قيمته أي بدافع الادخار والاحتياط.
شركة "الإيمان" واحدة من الشركات التي صدر بحقها قرار الشطب من السوق المصرية، يحمّل مالكها ياسر عبدالتواب، في اتصال هاتفي مع "العربي الجديد"، البنك المركزي مسؤولية فشل وضع سياسات مصرفية حقيقية، تكبح الدولار، قائلا "المركزي رضخ لكبار المستوردين في الحفاظ على سعر ثابت للدولار في البنوك الرسمية، وعندما فشلت سياساته انتقم من الفئات التي ليس لها صلة من قريب أو بعيد بفشله وهم أصحاب شركات الصرافة وذلك بشطب شركاتهم من السوق".
يكشف عبدالتواب أن مُعظم الشركات التي صدر قرار بإغلاقها، انتقلت من التجارة في العملة عبر مكاتبها بشكل رسمي إلى التجارة في السوق السوداء، مبرراً ذلك بالتعنت من جانب البنك المركزي حيالها.
المركزي: السوق السوداء ستزول للأبد
واجهت "العربي الجديد" وكيل محافظ البنك المركزي لشؤون المخاطر المركزية والرقابة الميدانية طارق الخولي، بما وثقه معد التحقيق، لكنه رفض التعليق على هذا الأمر مكتفياً بالقول "سياسة البنك المركزي مع السوق السوداء سليمة، والفترة المُقبلة ستكون شاهداً على زوالها للأبد".
من جانبه، يوضح محمود أبوالعيون، رئيس البنك المركزي السابق، أن قاعدة المتعاملين في السوق السوداء زادت بعد شعورهم بأزمة نقص الدولار لدى البنك المركزي، إذ بدأو في استغلال حاجة المستوردين ورفع الأسعار تدريجيا بفارق كبير عن السوق الرسمية.
وتابع في تصريحات خاصة لـ"العربي الجديد"، "رفع أسعار الفائدة على الدولار في البنوك كوسيلة لتشجيع المواطنين على عدم اللجوء للسوق السوداء دليل على سوء الإدارة وعدم إدراك عمق الأزمة الحقيقي، وهو ما أدى إلى نقص احتياطات الدولة من الدولار، وتمدد السوق السوداء في كافة أنحاء مصر وخارجها، مؤكداً أن التدخل المستمر في السوق بحجة الحفاظ على سوق سعر الصرف لمدة عامين سياسة خاطئة".
وأضاف أبوالعيون أن غلق شركات الصرافة سيسهم في خفض سعر الدولار في السوق السوداء لكن بشكل مؤقت فقط، موضحاً أن "هذا الإجراء وقتي وسينتهي أثره مع انتشار المضاربات وخروج السوق عن السيطرة"، مما يلزم الدولة بالتفكير بأسلوب آخر للخروج من الأزمة بتعزيز الموارد الدولارية.