وصل تدخل الجيش المصري في المجال الاقتصادي إلى مستويات غير مسبوقة، تصاعدت وتيرتها تدريجياً في أواخر عهد الرئيس المخلوع، حسني مبارك، ثم أخذت تتسارع مع تولي المجلس الأعلى للقوات المسلحة شؤون الحكم في البلاد، حتى وصلت إلى أعلى مستوياتها في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي، بعد الانقلاب العسكري الذي نفذه ضد الرئيس المنتخب ديمقراطياً، محمد مرسي.
ومع توقيع اتفاقية كامب ديفيد، في 17 سبتمبر/أيلول 1978، التي وضعت نهاية لحالة الحرب بين مصر وإسرائيل، واحتوت بنوداً تقلص من المهام القتالية للجيش، وتحد من أعماله العسكرية، بدأ اهتمام القوات المسلحة في التحول إلى الأنشطة الاقتصادية، التي أخذت في التضخم بعد بدء مبارك تطبيق خطة الخصخصة، والتي استغلها الجيش بقيادة وزير الدفاع السابق، المشير محمد حسين طنطاوي، بالاستحواذ على مشاريع كبرى، كان منها "ترسانة الإسكندرية" على سبيل المثال. كما توسع في إنتاج السلع الغذائية والأجهزة الكهربائية والخدمات المدنية، المتمثلة في الفنادق وقاعات الأفراح وخلافه. ومع استشعار الجيش، وعلى رأسه طنطاوي، بتهديد مجموعة من رجال الأعمال، بدعم من جمال مبارك، لمصالح القوات المسلحة الاقتصادية، بدأت المؤسسة العسكرية في البحث عن طريقة لمواجهة ذلك، حتى جاءتهم حركة الجماهير في ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، كهدية من السماء، واستغلوها أفضل استغلال، إذ سارعوا إلى الإطاحة بمبارك ونظامه. وبدأت بعدها أزهى عصور الاقتصاد العسكري في مصر.
أراضٍ بوضع اليد
لم تترك المؤسسة العسكرية مجالاً اقتصادياً لم تحاول أن تستحوذ عليه لتحقق المكاسب، سواء في مشروعات ضخمة من المصانع وإنشاء الطرق والكباري (الجسور) أو حتى التجارة بالسلع الغذائية البسيطة، والتي يمتلك الجيش الأفضلية في إنتاجها لأكثر من سبب، وهي سيطرته على مساحات شاسعة من الأراضي الصالحة للزراعة وتربية الحيوانات، وهي ملكية لا يشوبها أي نوع من أنواع الضرائب ولا الإيجارات التي تدفعها الشركات الخاصة. وبحسب بحث أعدّه أحمد مرسي، لمركز كارنيغي للشرق الأوسط في يونيو/حزيران 2014، فإن "الجيش هو أكبر قيّم على الأراضي الحكومية في البلاد، إذ منح قرار رئاسي، صدر في عام 1997، الجيش الحق في إدارة جميع الأراضي غير الزراعية وغير المستثمرة، والتي تشير التقديرات إلى أنها تصل إلى 87 في المئة من مساحة البلاد".
هذا إضافة إلى تجنيد آلاف من الشباب للعمل في تلك المزارع من دون مقابل يذكر، إذ إن راتب المجند المصري، الذي يعمل في تلك المشروعات، لا يتجاوز 300 جنيه، وهو ما يمثل أقل من 10 في المائة مما يتقاضاه نظيره في القطاع المدني. كما أن للجيش القدرة على توزيع تلك المنتجات بطريقة لا تكلفه شيئاً، إذ إنه يمتلك أسطولا من الآليات، التي تستوردها القوات المسلحة، من دون دفع أي ضريبة أو جمارك عليها. كما أن توفير الوقود هو من أبسط الأمور داخل القوات المسلحة التي تحصل على حصتها من الموازنة العامة للدولة كاملة، بما فيها المواد البترولية.
مصدر هام آخر هو منتجات اللحوم وبأسعار رخيصة، لكنه في الوقت ذاته يشكل كارثة على صحة المصريين، ألا وهو استيراد اللحوم الحية الأيرلندية، والتي حذر من خطورتها خبراء بيطريون قالوا، لـ"العربي الجديد"، إن تلك اللحوم تأتي عن طريق إسبانيا، التي يستخدمها المصدرون في أوروبا كمحطة لتمرير العجول الأيرلندية الممنوع استيرادها أصلاً في دول كثيرة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا نتيجة إصابتها بجنون البقر. وأكد الخبراء أن مصر كانت تحظر استيراد العجول والألبان من أيرلندا الموبوءة بمرض جنون البقر منذ العام 1998، ولذلك لجأ بعض المصدرين الأوروبيين إلى تصدير اللحوم الأيرلندية الرخيصة السعر للقوات المسلحة المصرية، عبر إسبانيا.
وقالت مصادر إن إسبانيا ليس لديها فائض لتصدره، وهي في الأصل دولة مستوردة، ولا تبيع مواطنيها ما تقوم باستيراده من أيرلندا، إنما تبيعه إلى دول مثل مصر من خلال عملية التحايل تلك، التي تدر أرباحاً طائلة على الجميع، بسبب التسهيلات التي يحصل عليها المستوردون في عملية الدفع. الكارثة، بحسب ما أكدت المصادر، تتمثل في أن سن الحيوانات التي استوردها الجيش، بمساعدة المافيا العالمية، تزيد عن 3 إلى أربع سنوات، وهي السن التي يصيب فيها مرض جنون البقر الماشية، مشيرة إلى أن مصر لا تمتلك أجهزة للكشف عن مرض جنون البقر، وهو ما يمثل خطورة بالغة على صحة المصريين. وأكدت مصادر مسؤولة أنه تم إنهاء صفقة ضخمة منذ عامين، لاستيراد 100 ألف عجل من إسبانيا بنفس الطريقة التي يقوم فيها المصدرون بالتحايل على حظر الاستيراد من أيرلندا، وذلك بنقل العجول إلى إسبانيا لشهور معدودة، ثم بيعها مباشرة إلى مصر. وتمت الصفقة في إطار الاتفاق الموقَّع بين الشركة القابضة للصناعات الغذائية وجهاز مشروعات الخدمة الوطنية للقوات المسلحة، مع إحدى الشركات الألمانية العملاقة العاملة في مجال الثروة الحيوانية، ووصلت أول دفعة منها إلى ميناء الإسكندرية في 10 فبراير/شباط من العام الماضي، وقدرت بـ1100 عجل، تم توزيعها على منافذ القوات المسلحة المنتشرة في مصر.
تشكيلات قتالية تحولت إلى وحدات إنتاجية
إذن الجيش لديه أراضٍ زراعية، ومزارع حيوانية، ومصادر أخرى للحوم المستوردة الرخيصة. لكن السؤال الآن هو كيف يقوم الجيش بتسويق كل تلك المنتجات الغذائية في جميع أنحاء مصر، من أسوان إلى الإسكندرية، ومن السلوم إلى سيناء؟ ورصدت "العربي الجديد" عشرات المنافذ التابعة للقوات المسلحة، ليس في القاهرة فقط بل في الكثير من القرى الصغيرة المنتشرة في الدلتا والصعيد. لكن كيف تتم إدارة كل هذه الفروع؟
مصادر عسكرية، رفضت الكشف عن أسمائها وصفاتها، أكدت أن إدارة منافذ بيع السلع التابعة للقوات المسلحة تتم بطريقة لامركزية، إذ إن كل كتيبة وكل وحدة من وحدات القوات المسلحة المنشرة في مصر مكلفة بإنتاج المواد الغذائية كل حسب استطاعتها، كما أنها مكلفة بإنشاء منافذ لبيع تلك السلع. فمثلًا الوحدات التابعة لقيادة المنطقة الغربية تقوم بفتح فروع لتغطي محافظات السلوم ومرسى مطروح وسيوة، والوحدات التابعة لقيادة المنطقة الشمالية العسكرية تغطي محافظات الإسكندرية وغرب الدلتا. أما القاهرة، فتتولى إدارتها المنطقة المركزية العسكرية. وتتولى تشكيلات ووحدات الجيش الثاني الميداني محافظات بورسعيد والإسماعيلية وشرق الدلتا. كما تقوم الوحدات والتشكيلات التابعة للجيش الثالث الميداني بتغطية محافظات السويس والبحر الأحمر وجنوب سيناء. وأخيراً تتولى قيادة المنطقة الجنوبية، بوحداتها وكتائبها، تغطية محافظات الصعيد الشمالية والجنوبية.
وقالت المصادر العسكرية إن توسع القوات المسلحة في أنشطة تجارية من هذا النوع يمثل كارثة بكل المقاييس، إذ إن انخراط الوحدات العسكرية في إنتاج المواد الغذائية وبيعها للمواطنين، ينسف تماماً وظيفتها الأساسية المتمثلة في الاستعداد القتالي الذي لا يكون على أكمل وجه سوى بالتدريب المتواصل. وفكرة أن تقوم الفرق والألوية والكتائب، بتوظيف جنودها وضباطها في الزراعة وبيع المنتجات الغذائية للجمهور، تعني نسياناً تاماً لموضوع الكفاءة القتالية وما إلى ذلك. كما أن الاحتكاك الدائم بين المدنيين والعسكريين، من خلال عمليات البيع والشراء داخل تلك المنافذ، يخلق علاقة مشوهة بين الطرفين قد تؤدي إلى عدم احترام المدني لقواته المسلحة، ولا سيما أن الأمر كله لا يتجاوز تجارة مربحة لقيادات الجيش.