بدأ أسبوع الآلام باكراً في مصر هذه السنة، تحديداً في اليوم الذي كان يُفترض أن يكون يوم فرح عند المسيحيين. أحد الشعانين، أو السعف، حوّله الإرهاب إلى يوم دامٍ كارثي، راح ضحيته نحو 48 مصرياً، بين مدنيين مصلين ومحتفلين بالعيد في كنيسة مار جرجس في طنطا عند دلتا النيل، والكاتدرائية المرقسية في الإسكندرية، ورجال أمن حاولوا الحدّ من الخسائر فضحّوا بحياتهم. طنطا والإسكندرية كانتا على موعد جديد مع جرائم تنظيم "داعش"، التي سبّقت موعد الجمعة الحزينة التي يُحيي فيها المسيحيون بعد خمسة أيام ذكرى صلب عيسى المسيح. أسئلة التقصير الأمني مطروحة بقوة، كذلك الخشية من التفاعل الطائفي للمأساة التي ضربت المسيحيين في هذه الجولة من الإجرام، التي طاولت في المرات السابقة كافة فئات المصريين. وإلى جانب هذه الخشية، ينتظر أن يكون للجريمة التي ضربت الكنيستين، وأعلن "داعش" مسؤوليته عنها، تداعيات سياسية كبيرة، داخل صفوف النظام من جهة، وبين السلطة ومعارضين سياسيين يتوقع أن تزداد وتيرة التعاطي الدموي معهم من جهة ثانية، كذلك لناحية أثر التفجيرات الانتحارية وبعبوات ناسفة على علاقات مصر مع الخارج من ناحية ثالثة. وربما يكون تأجيل الزيارة التي كانت مقررة لبابا الفاتيكان، فرنسيس، إلى مصر في 28 و29 أبريل/نيسان الحالي، أولى نتائج هذه التفجيرات على الصعيد الدولي، إن حصل التأجيل بالفعل، وسط مسارعة معظم الدول العربية والأجنبية والمنابر الدينية الإسلامية والمسيحية في العالم، إلى إدانة مسلسل جرائم يوم الأحد. وكان شيخ الأزهر، أحمد الطيب، وبابا الفاتيكان، أول المعزّين في الجريمة. أما المحاسبة الفورية عن التقصير، فقد اقتصرت، حتى مساء الأحد، على إقالة مدير أمن الغربية اللواء حسام الدين خليفة.
وحتى عصر الأحد، لم تظهر ملامح محاسبة جدية للمسؤولين عن التقصير الأمني، رغم فداحة الموقف، إذ إن أحد الشعانين هو أحد أكثر المناسبات الدينية أهمية عند المسيحيين، وهو يسبق عيد الفصح بأسبوع، بالتالي فإن الإجراءات الأمنية حول دور العبادة غالباً ما تكون مشددة للغاية. وعلى الرغم من ذلك، تمكن "داعش" من تنفيذ جرائمه، وهو ما يعتبر فشلاً أمنياً كبيراً. وقد بدأ اليوم المصري الدامي الطويل صباحاً، عند العاشرة تقريباً في طنطا، محافظة الغربية، تحديداً في كنيسة مار جرجس، حيث أودت عبوة داخل الكنيسة بحياة 30 مواطناً على الأقل، بحسب حصيلة وزارة الصحة. ولم تمضِ إلا بضع ساعات حتى فجّر انتحاري نفسه أمام الكنيسة المرقسية في الإسكندرية، حيث كان بابا الأقباط، تواضروس، يصلي هناك، ما أودى بحياة 18 مصرياً على الأقل، بينهم 3 ضباط كانوا مسؤولين عن تأمين الكنيسة. وبقي أكثر من 120 جريحاً في المستشفيات، علماً أن عدداً كبيراً من الضحايا هم من الأطفال. ولم يُعرف ما إذا كان تواضروس مستهدفاً بتفجير الإسكندرية، أو ما إذا كان تفجير طنطا جعل جهازه الأمني يتخذ الإجراءات اللازمة. وقال سكرتير البابا، القس انجيلوس، في اتصال هاتفي مع وكالة "فرانس برس" بعد الانفجار، إن "البابا بخير"، موضحا أنه غادر الكنيسة قبل الانفجار. وفرضت قوات الشرطة طوقاً أمنياً حول مكان الجريمة في طنطا. ووفقاً لمصادر أمنية، فإن قوة التفجير الإرهابي كانت هائلة، وقد وقع التفجير داخل حرم الكنيسة، ولم يكن في محيطها، بحسب بيان وزارة الداخلية المصرية. وقال اللواء طارق عطية، مساعد وزير الداخلية لقطاع الإعلام، إن "الانفجار وقع داخل الكنيسة أثناء الصلاة في الصف الأول عند المذبح". وبعد ساعات فقط، أعلنت مديرية الصحة في الإسكندرية، استشهاد ضابط و2 من أمناء شرطة قوة حراسة كنيسة مار مرقس في الإسكندرية، وكذلك الانتحاري منفّذ الجريمة. وقالت مصادر أمنية إن قوة تأمين الكنيسة، تعاملت مع الانتحاري قبل دخوله الكنيسة وقامت باحتضانه لمنعه من الدخول، وهو ما قلل من عدد الضحايا. وفي السياق، تمكّن خبراء المفرقعات بمديرية أمن الإسكندرية من تفكيك سيارة مفخخة وضعها مجهولون في شارع شاكور بمنطقة محطة الرمل، وسط المدينة بالقرب من مقر الكاتدرائية المرقسية المستهدفة. كما تمكنت قوات الحماية المدنية في الإسكندرية، من تفكيك قنبلة زرعها مجهولون بجوار سور كلية سان مارك، وسط المدينة. وفكك خبراء المفرقعات بمحافظة الإسماعيلية، أيضا، عبوة ناسفة محملة بكمية كبيرة من المواد المتفجرة. كما قامت إدارة الحماية المدنية في وزارة الداخلية بتفكيك عبوة ناسفة في محيط مسجد سيدي عبد الرحيم بمدينة طنطا، وعلى بعد أمتار قليلة من محيط المنطقة التي شهدت تفجير كنيسة مار جرجس.
وبينما صدرت جميع التصريحات الرسمية في سياق التأكيد على الوقوف مع الدولة ضد "الإرهاب" رافضة الإشارة بأي شكل من الأشكال إلى التقصير الأمني، دانت قوى سياسية الحادثَ محمّلةً الرئيس عبد الفتاح السيسي وحكومته مسؤولية الدماء التي سالت في طنطا والإسكندرية، وقبلهما في الكنيسة البطرسية بالقاهرة. وسارع السيسي إلى الدعوة لاجتماع عاجل لمجلس الدفاع الوطني، على خلفية التفجيرات الثلاثة، قبيل إعلان تنظيم "الدولة الإسلامية" مسؤوليته عن التفجيرات. وقرر السيسي الدفع بعناصر من القوات المسلحة بشكل فوري لمعاونة الشرطة في تأمين المنشآت الحيوية بمختلف محافظات مصر. وقالت وكالة "أعماق"، الناطق باسم "داعش"، في بيان مقتضب، إن مفرزة أمنية تابعة للتنظيم نفذت التفجيرات. ووجه السيسي "خالص العزاء والمواساة لأسر الضحايا"، ونقل بيان رئاسي عنه تأكيده أن "هذا الإرهاب الغادر إنما يستهدف الوطن بمسيحييه ومسلميه، ولن ينال أبداً من عزيمة المصريين وإرادتهم الحقيقية في مواجهة قوى الشر، بل سيزيدهم إصراراً على تخطّي المحن والمضي قدماً في مسيرتهم لتحقيق الأمن والاستقرار والتنمية الشاملة". وقالت المصادر الكنسية لـ"العربي الجديد" إن البابا تواضروس الثاني، بابا الإسكندرية بطريرك الكرازة المرقسية، يمارس ضغوطًا شديدة على الأساقفة من أجل احتواء غضبهم وإجبارهم على عدم التحدث لوسائل الإعلام بطريقة سلبية ضد الدولة وأجهزة الأمن، في انتظار ما سيصدر من الرئيس. وقبل 4 أشهر، نفّذ "داعش" عملية تفجير للكنيسة البطرسية الملاصقة للكاتدرائية المرقسية بالعباسية في محافظة القاهرة، وقتل في حينها ثلاثين شخصاً. ويظهر تكتيك تنفيذ عملية مار جرجس، أي التفجير من داخل الكنيسة، رغبة التنظيم في إحداث أكبر ضرر ممكن في الخسائر البشرية. وكان التنظيم قد توعّد، في شهر فبراير/شباط الماضي، بتنفيذ مزيد من العمليات ضد المسيحيين في مصر، خلال الفترة المقبلة.
وكانت مدينة طنطا شهدت واقعة استهداف مركز لتدريب الشرطة، مطلع أبريل/نيسان الجاري، أسفر عن إصابة ستة مدنيين، و14 شرطياً، إثر انفجار وقع في محيط المركز، نتيجة وضع مجهولين قنبلة قرب دراجة نارية. ومطلع الشهر الجاري، شهدت محافظة الغربية، وقوع تفجير قرب مركز تدريب الشرطة بمدخل مدينة طنطا، ما أسفر عن إصابة 16 شخصاً. وفي ديسمبر/كانون الأول الماضي، وقع تفجير إرهابي في الكنيسة البطرسية، الملاصقة للكاتدرائية المرقسية بالعباسية (وسط العاصمة) أثناء صلاة القداس، ما أدى إلى مقتل وإصابة العشرات.
وقال بيان لحزب "الاشتراكيين الثوريين" المعارض: "مرة أخرى يفشل نظام السيسي بحكمه العسكري ودولته البوليسية في حماية حياة وكنائس الأقباط". وذكر البيان أن "الأسابيع الأخيرة قبل ثورة يناير 2011 شهدت تظاهرات كبرى لشباب الأقباط ضد حرق وتفجير كنائسهم وضد تواطؤ الداخلية. إحدى علامات الفشل السياسي لنظام مبارك كان تلك المعادلة الطائفية المقيتة القائمة على دور الكنيسة في دعم النظام واستيعاب الغضب القبطي من جانب وترْك مساحة للتحريض الطائفي الأزهري والسلفي من الجانب الآخر. دولة (حسني) مبارك كانت دولة طائفية بامتياز، ودولة السيسي قائمة على نفس المعادلة الطائفية". كما طالب حزب مصر القوية، بسرعة ضبط المتورطين، ومحاسبة المقصرين. وشدد الحزب، في بيان، على ضرورة محاسبة كل من ساهم في الواقعتين، ولو بالتقصير من المسؤولين عن أمن الكنيسة، موجهاً رسالة إلى المسؤولين عن أمن مصر، مفادها "إما حمايتهم لأمن المصريين جميعاً أو الرحيل عن مواقع المسؤولية، فحياة المواطنين هي الخط الفاصل، الذي لا يمكن تخطيه أو التهاون في انتهاكه". كما سارعت جماعة الإخوان المسلمين والحزب الناطق باسمها، "الحرية والعدالة"، إلى إدانة الجريمة بحق الكنائس المصرية. كذلك دان حزب النور (السلفي) التفجيرات، قائلاً: إن "تلك الاعتداءات لا تستهدف الكنيسة فقط، وإنما استقرار الوطن وتماسكه، فضلاً عن محاولة العبث بمصيره ومستقبله، وإيقاع الفتنة بين أبناء الوطن الواحد، بما يستدعي من أبناء الوطن جميعاً توخّي الحذر واليقظة، حتى لا ينال هؤلاء المجرمون ما يريدون". بدوره، دعا حزب المحافظين "جميع المصريين إلى التكاتف لتفويت الفرصة على الفئة الباغية".
واعتبر الخبير الأمني، العميد محمود قطري، أن الأوضاع الأمنية في مصر من سيئ لأسوأ خلال الفترة الحالية، في ظل الفشل في ضبط العناصر الإرهابية. وأضاف قطري لـ"العربي الجديد"، أن الفشل الأمني لا يلاحق قيادات الشرطة وأجهزة جمع المعلومات، متسائلا: "كيف لم تتمكن الأجهزة الأمنية من كشف مخطط خطير لضرب المسيحيين في أعيادهم؟". وتعجّب من ضَعْف التأمين للكنائس في ظل الاحتفال بحد السعف، على الرغم من الحديث عن تشديدات إجراءات التأمين منذ انفجار الكنيسة البطرسية. ولفت إلى أن التنظيم المسلح يعرف جيدًا أن استهداف المسيحيين هو الأكثر تأثيرًا على الساحة، بما يضمن له البقاء على الساحة وإظهار قدراته. وطالب بضرورة تغيير قيادات أجهزة جمع المعلومات، لعدم وجود تطوّر في التعامل مع الجماعات المسلحة، وهي تعتمد في الأساس على المعلومات لكي يتم تفكيكها تمامًا. وقال خبير في مركز الأهرام للدراسات السياسية، إن تكرار استهداف المسيحيين في مصر، ينذر بمزيد من القلاقل داخل المجتمع المصري. وتابع أن استمرار نفس السياسات الأمنية في ملاحقة المعارضين وعدم التركيز بشكل أساسي على ملاحقة المسلحين الذين يهددون الأمن الداخلي، خطأ كبير يجب إدراكه بشكل سريع.