الحملة ضد "النهضة" التونسية: حصار ما قبل الانتخابات؟

04 فبراير 2019
سقوط التوافق بين السبسي والغنوشي أربك الرجلين(فتحي بلعيد/فرانس برس)
+ الخط -
تكثفت منذ نحو شهر محاولات محاصرة حركة النهضة التونسية ودفعها إلى مربع الدفاع المتواصل عن نفسها ضد الاتهامات. وتعددت أشكال هذه الاتهامات بين التلميح والتصريح، وطرحت بخصوصها ملفات عالية الخطورة، سياسياً ومالياً وأمنياً وقانونياً، في مسعى واضح لإرباكها وتكثيف الضغوط على قياداتها من كل الجهات لتغيير المعادلة السياسية الحالية، أو لضربها قبل الانتخابات في أكتوبر/تشرين الأول المقبل.

ويكشف الرئيس التونسي، الباجي قائد السبسي، بوضوح خلفية هذه الحملات المتلاحقة، حين يُحمل، في آخر حوار صحافي له، رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي ورئيس الحكومة يوسف الشاهد مسؤولية الأزمات التي تعيشها تونس. ويؤكد السبسي أن "حكومة الشاهد هي حكومة النهضة بامتياز، ولو تسحب الحركة الثقة منها ستسقط فوراً"، مضيفاً أن "الشاهد يريد أن يبقى في السلطة، وقال "عنده خلاف مع النداء (نداء تونس). لا أعتقد أن هذا الأصل. النهضة فهمت طموحه وتعاملت معه بذكاء ودفعته إلى تكوين حزب جديد يشاركها الحكم بعد انتخابات 2019، وراشد الغنوشي سيدعمه في السرّ ليترشّح لرئاسة الجمهورية. هذا لم يعد خافياً على أحد في تونس".

وسارعت "النهضة" لنفي هذا الأمر، مؤكدة أن الحركة لم تطرح بعد ملف الانتخابات الرئاسية على الطاولة، ولم تحدد إذا كانت سترشح أحداً منها أو ستدعم مرشحاً آخر. لكن السبسي يلفت بوضوح وبصريح العبارة إلى أنها (حركة النهضة) لو تسحب دعمها للشاهد فستسقط حكومته فوراً، ما يعني أن الرئيس يريد تحقيق ذلك الآن، لكن "النهضة" تقف حجر عثرة أمامه وتمنعه من ذلك بحكم حجم تمثيلها في البرلمان. وأمام هذا الموقف النهضوي، انطلقت الاتهامات من كل جانب. ويحاول خصومها ضربها في مكامن شديدة الحساسية، الملف الأمني، وربطها بملف الاغتيالات السياسية واتهامها بامتلاك جهاز أمني سري. لكن الأمر لم يعد متوقفاً على مجرد تصريحات سياسية في وسائل الإعلام، وإنما يتم تدارسه باستمرار في مجلس الأمن القومي، الذي يشرف السبسي عليه شخصياً، وأصبح نقطة دائمة في اجتماعاته، آخرها الجمعة الماضي، لمواصلة الضغط على الحركة. وتم إدراجه أيضاً في أبحاث القضاء المتعلقة بملف اغتيال محمد البراهمي وشكري بلعيد. وتجوب اللجنة المكلفة كشف الحقيقة عن الاغتيال، أرجاء البلاد وتكشف ما لديها من وثائق واتهامات، ما رفع من وتيرة الضغط على "النهضة" وإبقائه على أعلى الدرجات.

وحول الاتهامات المتعلقة بالجهاز السري، قال السبسي، في حوار صحافي، "لو كنت أنا مكان النهضة لكنت عملت على إثبات أن هذا الأمر غير موجود. لكن نحن ليس لدينا موقف معادٍ أو متحمس لهذا أو ذاك، نحن نتحمس للحقيقة لأنها ذات فائدة للجميع". ويرد القيادي في حركة النهضة، علي العريض، في حوار مع الإذاعة الرسمية، بأن "ملف الجهاز السري مجرد خدعة"، مضيفاً أن "هيئة الدفاع عن الشهيدين شككت في القضاء والحكومة والوزراء، ولا تعتبر سوى أن وجهة نظرها هي الصحيحة". ويضيف أن "حركة النهضة ليست خائفة من الحقيقة، وهي تعلم جيداً أن ما يحصل له غايات سياسية، ونحن متمسكون بأن يكون القضاء هو الفيصل في مثل هذه القضايا".



ومنذ أيام فُتح ملف جديد لحركة النهضة يتعلق بتمويلها للانتخابات، بعد أن قام محافظ البنك المركزي التونسي، مروان العباسي، بمراسلة البنوك للتثبت من حسابات "النهضة" وعدد من قيادييها والناشطين فيها‎. وجاء في مذكرة صادرة عن البنك المركزي التونسي أن "دائرة المحاسبات طلبت بمقتضى مراسلة وردت إليها بتاريخ 24 ديسمبر/كانون الأول 2018، تحت عدد 302422، مدها بمعطيات تخص الحسابات المفتوحة لدى بنوك البلاد التونسية باسم حزب حركة النهضة وعدد من الأشخاص الطبيعيين". وأكّدت دائرة المحاسبات، في بيان الجمعة الماضي، أنّ "المراسلة التي وجّهتها إلى محافظ البنك المركزي التونسي تندرج في إطار أعمالها المتعلّقة بالرقابة على تمويل الحملة الانتخابية للبلديات لسنة 2018"، مضيفة أن "كلّ الأحزاب السياسية الفائزة بمقاعد في المجالس البلدية مشمولة بهذا الإجراء". وأوضحت أن "هذا الإجراء يأتي في إطار تطبيقها لأحكام الفصل المتعلّق بالانتخابات والاستفتاء، والذي يخوّل دائرة المحاسبات أن تطلب من أية جهة كانت كل وثيقة ذات علاقة بتمويل الحملة الانتخابية، ويمكن أن تكون لها جدوى في إنجاز العمل الرقابي الموكل إليها في هذا الإطار". ودعت دائرة المحاسبات إلى "ضرورة النأي بها عن كلّ التجاذبات السياسيّة"، مؤكدة "حرصها على إنجاز أعمالها بكلّ استقلالية وتجرّد، والبقاء على نفس المسافة من كل الأطراف الخارجية والجهات الخاضعة لرقابتها". وبحسب ما يروّج من أخبار فإن العشرات من أبرز قيادات الصف الأول في "النهضة" ستكون مشمولة بهذا الإجراء، ما سيحدث نوعاً من الارتباك داخلها وربما يؤلب البعض منها على الخيارات التي وصلت بالحركة إلى دائرة الاتهامات المتواصلة. وكانت مجلة "جون أفريك" اتهمت، مع مطلع العام الحالي، حركة النهضة بالتعامل مع مؤسسة بريطانية للتسويق السياسي والإعلامي، باعتمادات تقدر بـ18 مليون دولار للترويج لحملتها الانتخابية في الانتخابات التشريعية والرئاسية لسنة 2019، وهو ما نفته "النهضة" أيضاً.

والمتأمل في سلسلة الاتهامات المنشورة خلال الأسابيع الاخيرة، يكشف أن حركة النهضة دُفعت إلى دائرة الدفاع عن نفسها باستمرار، ونفي الاتهامات الموجهة إليها. ويبدو أن خصوم "النهضة" يتبعون استراتيجية تهدف إلى خلق حالة من الضبابية حولها لدى الرأي العام التونسي قبل الانتخابات، إذا افترضنا أن منافسيها سيكتفون بذلك أصلاً. لكن يبدو أن الإصرار على ضربها سيتواصل، وربما يتجاوز مجرد الاتهام إلى الإدانة، ما يضعها أمام خيارين لا ثالث لهما، وعليها أن تحدد قرارها بسرعة لأن الوقت يضيق قبل الانتخابات، فإما التراجع عن دعم الشاهد والعودة إلى بيت التوافق مع السبسي أو الإصرار على ذلك وتحمل مسؤولية ما ستؤول إليه هذه الحملة. ويبدو أن "النهضة" تعالج الأمر بسياسة الصبر وانتظار مرور العاصفة الهوجاء، وتستبعد أن يصل الأمر إلى ضربها واستبعادها نهائياً من الانتخابات. وكان رئيسها راشد الغنوشي وصف، في ذكرى الاحتفال بالثورة، هذه الاتهامات بأنها سياسية ومحاكمات تلفزيونية وابتزاز للقضاء. وأكّد أنّ القضاء سيثبت أنه لا أساس لهذه الاتهامات، محذراً من أن محاولة إقصاء "النهضة" عن الانتخابات المقبلة قد تضرّ بالصورة الديمقراطية لتونس.

وفي المقابل، يبدو أن "النهضة" مرتبكة داخلياً بخصوص الحكومة والشاهد، فهي تؤكد أن على الشاهد ألا يترشح للانتخابات، قبل أن تتنازل عن هذا الشرط، ثم تعود لتعتبر أنه "من حقّ كل مواطن ممارسة السياسة، ولكن تونس تمرّ بظرف خاص، ومرحلة انتقال ديمقراطي هشّة تستوجب تفرّغ الحكومة لمهامها". وتتحدث عن حيادية الحكومة، قبل تأسيس الشاهد لحزبه، لكنها تسكت عن ذلك أيضاً، بما يعكس حالة من عدم وضوح الرؤيا بهذا الخصوص وعدم الاستقرار على خيار نهائي بهذا الشأن. ويعتبر مراقبون أن سقوط التوافق بين الغنوشي والسبسي قد أربك الاثنين معاً، ولم تنجح جهود الوساطة لترميم العلاقة، مع أن ذلك يبقى متاحاً برغم كل ما سبق، إذ يحاول أصدقاء لهما إقناع الطرفين بضرورة تصفية هذه المناخات والعودة إلى التوافق الذي أضر سقوطه كثيراً بالمشهد السياسي التونسي. ويشير المراقبون إلى أن السبسي أصر، في تصريحات متتالية، على أنه لم يعد لديه ما يخسره وليست لديه أية طموحات بعد المسيرة السياسية الطويلة، أما "النهضة" فقد وضعت، في المقابل، قدمها على أول الدرج وبدأت للتوّ صفحة جديدة من حياتها السياسية بعد سنوات المنفى والسجون، ما يجعل المنافسة غير متكافئة.