وتحاول فرنسا بين الفينة والأخرى، جسّ نبض القيادة الجزائرية لمعرفة الموقف الرسمي تجاه هذا التدخل، والذي لا يظهر كثيراً للعلن بسبب مرض الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة، المزمن. ولعلّ زيارة وزير الخارجية الفرنسي الجديد، جان مارك أيرولت إلى الجزائر، يوم الثلاثاء الماضي، تدخل في هذا السياق، بعدما راجت أخبار لم تكذّبها السلطات الفرنسية عن تواجد قوات خاصة فرنسية في ليبيا لدعم اللواء خليفة حفتر (معسكر طبرق)، وتعقّب عناصر تنظيم "داعش" والمتشددين، بحسب التسريبات.
كما لم تتأخر فرنسا في استغلال دخول رئيس حكومة الوفاق الليبية، فائز السراج، إلى العاصمة طرابلس، يوم الأربعاء الماضي، مجددة التلميح إلى إمكانية التدخل العسكري. وترجم هذا التوجه الفرنسي بتصريحات لوزير الخارجية، في مقابلة مع صحيفة "ويست فرانس" المحلية، نُشرت أمس الجمعة، والتي أشار فيها إلى أنّ على المجتمع الدولي الوقوف على أهبة الاستعداد لمساعدة حكومة الوفاق الوطني الجديدة في ليبيا في حال هي طلبت، بما في ذلك عسكرياً. وقال أيرولت إنّ "ليبيا مصدر قلق مشترك لجميع البلدان في المنطقة وخارجها. الفوضى التي تسود اليوم تعزّز التنامي السريع للإرهاب، وهذا يشكل تهديداً مباشراً للمنطقة ولأوروبا. داعش يتراجع في سورية والعراق، لكنّه يتقدّم ميدانياً في ليبيا".
وأضاف وزير الخارجية الفرنسي "يجب أن نكون مستعدين للاستجابة في حال طلبت حكومة الوفاق الوطني برئاسة فائز السراج المساعدة، بما في ذلك على الصعيد العسكري". ورداً على سؤال حول تدخل عسكري محتمل في ليبيا، أوضح أيرولت أنّ "هذا يعتمد على ما تطلبه منا الحكومة الشرعية. فكرة أنه يمكننا شنّ ضربات جوية خارج أية عملية سياسية، ليست مطروحة". وأشار إلى أن "الجزائريين الذين لم يكونوا مؤيدين للضربات عام 2011، كما الروس، لم يمتنعوا أبداً عن تذكيرنا بالعملية في ليبيا، التي أدّت إلى سقوط العقيد معمر القذافي". ولفت إلى أنّ "علينا تجنب تكرار أخطاء الماضي وعدم نسيان ما حدث في العراق. مسؤولية التدخل الأميركي في عهد الرئيس الأميركي الأسبق، جورج بوش دراماتيكية. أخلّ ذلك التدخل بالمنطقة وأدى إلى نشوء التطرف وداعش. كل أولئك الذين يفكرون بحلول في سورية وليبيا، يعرفون أنه يجب عدم تكرار الأخطاء"، على حدّ تعبير الوزير الفرنسي.
في غضون ذلك، يتوقف المدير المساعد لمؤسسة الأبحاث الاستراتيجية الفرنسية، جان فرانسوا داغوزان، عند ما يفكر فيه الكثير من الساسة وأصحاب القرار في فرنسا من الموقف الجزائري تحديداً تجاه الجارة ليبيا، مشيراً إلى أنّ السياسة الدولية الجزائرية واضحة جداً، ولم تتغيّر، وليس من مهام قواتها العسكرية تجاوز الحدود الوطنية. وهو ما يعني أنها تحبّذ دائماً الحلول السياسية للصراعات، على الرغم من أن المشكل الداخلي الليبي أصبح، أكثر فأكثر، هاجساً داخلياً للجزائر ولجميع دول المنطقة". ويلفت الباحث في حديث لموقع "أتلانتيكو"، الإخباري الفرنسي، إلى أنّ "هذا الحياد العقائدي الجزائري يجري انتهاكه، أحياناً، حين تمنح الجزائر لنفسها حق المطاردة في تونس، أو حين ترسل قوات خاصة للقيام بعمليات في التراب الليبي"، على حد قول الباحث.
ويستعرض الباحث الأسباب الثلاثة التي تجعل الجزائر معنيّة بالدرجة الأولى بما يحصل في ليبيا، أولها أن عدم الاستقرار في هذا البلد ينشر انعدام الأمن في كل المنطقة. ثانياً، يعتبر هذا الصراع الداخلي تهديداً مباشراً لحدودها. فقد تعرضت الجزائر لاقتحامات كثيرة من طرف مسلحين قدموا من ليبيا، وخصوصاً الهجوم على منشأة الغاز في يناير/كانون الثاني 2013، الذي نفَّذه متشددون أتوا من ليبيا، من دون تجاهل العدد الكبير للاجئين الليبيين الذين وصلوا إلى الجزائر. أما السبب الثالث فيرجعه داغوزان إلى كون تونس مفتاح أمن الجزائر، وتساهم الفوضى الليبية في زعزعة أمنها، وفقاً لداغوزان.
وتريد الجزائر، بحسب الباحث، القيام بدور الوسيط بين المتصارعين في ليبيا، للعثور على حلّ سياسي، إنْ عن طريق الاتحاد الأفريقي أو عبر وسائلها الخاصة التي راكمتها دبلوماسيتها التي كانت نشطة في الماضي، وهو ما ظهر من تحركاتها في الفترة الماضية. لكن الجهود الجزائرية، التي يستعرضها داغوزان، لم تنجح. ويقول الباحث نفسه إن "الأمور تعقّدت بعدما نظَّم الجار المغربي، الذي لا يريد أن يترك كل الأوراق في أيدي الجزائريين، مفاوضات انتهت بالتوقيع على اتفاق (الصخيرات) برعاية الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي. وهو ما لم يرق للجزائر".
ويشكّك الباحث الفرنسي في نجاح الحل السياسي، كما تريد الجزائر، "لأن هذه العقيدة كانت تتناسب مع حقبة سابقة وسياق ماض، إذ وُلدتْ حين كان شمال أفريقيا مستقراً، وكانت الجزائر لا تريد أن تعيد النموذج الفرنسي في التدخل، باعتباره كولونيالية مُقنّعة. لكن هذه العقيدة، اليوم، تجعل الجزائر تغرق في وضعية لا تُحتمل"، وفقاً للباحث. ويرى أن الجزائر "إذا أرادت أن تساهم في نشر السلام واستقرار منطقة حدودها، فهي مرغمة على أن تنخرط أكثر مما تفعل حالياً".
ويعود الباحث الفرنسي إلى التنافس المغربي ـ الجزائري للقيام بدور الوسيط في الصراع الليبي، ويعتبره "من المشاكل الحقيقية الكبرى في المنطقة"، لأنّ التنافس "أسهم في غياب حلّ الصراع الليبي، كما فعل بالصراع في مالي". ويعتبر أنّ هذا التنافس له تأثير سلبي على أمن الصحراء ودول الساحل وشمال أفريقيا، عموماً. ويتحدث داغوزان عن "فراغ استراتيجي"، ويقول إن "غياب التعاون بين هذَين البلدَين في المنطقة استخدمه الجهاديون ليزدهروا، كما أن نتائجه كارثية. ولو نجح المغرب والجزائر في العثور على حل في الصحراء، فإن هذا سيُغيّر، بشكل كامل، المعطى الأمني في المنطقة. ويستطيع البلدان أن يعملا معاً على حلّ المشكلة. وطالما الأمر على حاله، فإن الفوضى التي تنتشر بسرعة، في شمال أفريقيا، لا يمكن التخلص منها، بشكل مستدام"، على حدّ تعبيره.
ويرى الباحث أن "الجزائر أصبحت سجينة لموقفها التقليدي، ولا يُنتَظر تغيير قريب بسبب انغلاق السياسة الداخلية، واستمرار الرئيس بوتفليقة في ممارسة السلطة على الرغم من مرضه. وهذا يعني أنه لا أحد يستطيع تحريك الخطوط. إذاً لن يحدث تغيير حتى يأتي رئيس جديد"، على حد قوله له. كما يتطرق الباحث إلى الموقف الجزائري من الصراع في مالي، ويعزو "غموضه" و"عدم مقروئيته" إلى مشكلة الاتصال والإعلام. ويكشف داغوزان "فرقاً بين المغرب والجزائر في الأمر. فبقدر ما يُعتبر المغاربة بارعين في الاتصال، بقدر ما تعاني الجزائر من صعوبة كبرى في تفسير وتبرير عملها على الساحة الدولية". ووفقا لداغوزان فإن هذا الأمر "يمكن تفسيره بكون الجزائر غيورة على حريتها. كما أن السلطات الجزائرية ترى أن الأفعال تكفي لذاتها"، على حد قوله.
وينوّه الباحث بالجهود التي بذلتها الجزائر، خلال العشرين سنة الأخيرة لحلّ الأزمة في مالي، والتي لم يتفق الجميع على كونها إيجابية، على الرغم من الإرادة الموضوعية في نشر السلام في المنطقة. وهذا ناتج، بحسب الباحث، من "غياب المهارة في الاتصال، وعجزٍ في تسويق ما تفعله في نظر باقي العالم". ويستعيد الباحث سنوات الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين، التي "كانت سنوات مجد للجزائر، البلد الذي كان إشعاعاً حقيقياً على الساحة الدولية، لكن الجزائريين سرعان ما أصابهم الإرهاق بعد ذلك. وانتهى الأمر باختفاء البلد من مجال الرؤية العالمية أثناء عقد الحرب الأهلية. وقد تطلب الأمر جهوداً يائسة من بوتفليقة، خصوصاً، أثناء ولايته الرئاسية الأولى 1999، لوضع الجزائر على السكة. لكن هذا لم يكن كافياً لستر غياب الوضوح حول العمل في الجزائر"، وفقاً للباحث.