يبدو رد الفعل الأولي في الساحة الفلسطينية الداخلية مجبولاً بنوع من التخبّط وعدم الجاهزية في مواجهة قانون القومية اليهودي؟
الحقيقة هي أن الأحزاب تفاجأت بسنّ القانون، لأن الاعتقاد السائد كان أنه لن يمر بسبب معارضة المتديّنين، جراء الخلافات داخل الائتلاف الحكومي وعدم الاتفاق على صيغة نهائية، فكان هناك اعتقاد سائد وانطباع خاطئ لدى نواب "القائمة المشتركة" (للأحزاب العربية في الكنيست) أن القانون لن يمر، لذلك كان هناك تراخٍ في التحضير للتعامل مع القانون. ولكن حصلت المفاجأة وتم إقرار القانون، لذلك وقعت "الصدمة الأولى". وكان المفروض أن نكون حاضرين لمواجهة سنّ القانون، وليس التعامل معه بعد تشريعه، كان أسهل لو اتخذنا الخطوات النضالية الصحيحة مثل إغلاق الكنيست في يوم التصويت على القانون، عبر تظاهرة وحشد الناس وإغلاق الشوارع.
القانون يترجم عملياً الوضع القائم إلى قانون أساسي، لم يأت بجديد، بل وضع كل ما هو قائم من سياسات وقوانين منفصلة، وأهداف وغايات ورؤى لدولة إسرائيل، في قانون واحد. وعملياً يثبت ما يقوله "التجمع الوطني الديمقراطي" منذ 20 عاماً، إن هذه هي إسرائيل. كانوا يتهموننا بأننا متطرفون وقوميون، والآن في هذا القانون إسرائيل تقول لهم إن ما يقوله التيار الوطني في الداخل (التجمع الوطني الديمقراطي) يعكس حقيقتنا كما هي، وهو أكد صحة قراءة "التجمع" للمشروع الصهيوني.
هذا الأمر يجب أن يشكّل صفعة لكافة التيارات التي ما زالت لغاية الآن لم تقم بقراءة إسرائيل بالشكل الصحيح. نحن قلنا في "التجمع" إنه لا يمكن قراءة إسرائيل منذ 2015 وحتى اليوم كما قرأنا وفهمنا وتعاملنا مع "إسرائيل أوسلو". إسرائيل اليوم مختلفة تماماً والعالم مختلف تماماً، والإقليم تغير، كما أن المجتمع الإسرائيلي تغير. في عام 1967 تم ترويضنا، لم يكن هناك نضال ونَفَس نضالي لأنه لم يكن هناك مشروع، وهناك تغيير كبير في الداخل. واليوم إسرائيل تعلن لنا حقيقتها، "هكذا أنا"، فلنتعامل معها إذاً كما هي.
ماذا يعني هذا؟
يعني أن نتعامل مع الأمر الواضح كما هو، فبات واضحاً للجميع وباعتراف أوساط مثقفين وأحزاب وأكاديميين، يتحدثون ويعترفون على مضض، بأن إسرائيل هي دولة أبرتهايد، والحل هو ما طرحناه نحن في "التجمع"، تفكيك منظومة السيطرة الاستعمارية، وهذا يعني المطالبة بتحويل إسرائيل إلى دولة مواطنين. هناك جزء بطبيعة الحال لا يعترف بهذا الواقع ولا يزال يراهن على مفهوم الشراكة اليهودية العربية، من دون توضيح مضمون ومشروع هذه الشراكة، فإذا كان مشروعها تغيير حكومة اليمين فإن هذا لم يعد كافياً في الواقع الراهن، لأنه حتى لو تغيرت الحكومة، فإن هناك قانون أساس يؤطر عمل أي حكومة مقبلة. ومن دون تغيير في الثقافة والمفاهيم في المجتمع الإسرائيلي، لا يمكن تغيير هذا القانون، لأنه في أي تركيبة مقبلة سيكون الأشخاص أنفسهم والأحزاب الحالية.
ما تقوله عملياً يضع عراقيل حتى أمام من يراهنون على حل الدولة الواحدة من خلال مخاطبة "القوى اليهودية التقدمية" غير الصهيونية في المجتمع الإسرائيلي. هل هناك قوى يهودية غير صهيونية وازنة في المجتمع الإسرائيلي؟
كلا. لا توجد قوة غير صهيونية كافية في المجتمع اليهودي، هناك بالهوامش، أصلاً هذا القانون يثبّت الدولة الواحدة. ما نتحدث عنه وما يقوله هذا القانون إنه لا توجد دولة فلسطينية، لن تكون، وإنما دولة يهودية واحدة مع مكانة مختلفة لأطياف الشعب الفلسطيني تحت سيطرة هذا النظام. يعني في أراضي 48 مواطنة، ولكن مواطنة منقوصة تحت سقف يهودية الدولة، وأن هذه الدولة هي الدولة القومية للشعب اليهودي. وفي الأراضي المحتلة عام 67، لا مواطنة ولا احتلال، سيطرة ووهم بحكم ذاتي يخدم مصالح إسرائيل: احتلال رخيص من دون تكلفة، وسجن في قطاع غزة، وهناك القدس مع مكانة رعايا لأهلها كسكان لا غير. دولة واحدة مع أدوات سيطرة مختلفة.
هذه هي حنكة ودهاء المشروع الصهيوني، فهو يدرك أنه إذا منح المواطنة المشتركة حتى تحت سقف الدولة القومية للشعب اليهودي، ولو أعطى حق التصويت لكل الفلسطينيين تحت سيطرته، فسينتهي المشروع الصهيوني. هو يدرك بحسب المشروع الصهيوني الحالي أنه لا يستطيع السماح بإقامة دولة فلسطينية، خلافاً للسابق في عهد حكومات حزب "العمل" التي كانت تبدي قبولاً لنوع من الدولة الفلسطينية بالشروط الإسرائيلية، وهي بقاء المستوطنات، والقدس عاصمة إسرائيل، ورفض حق العودة تحت مبررات أمنية (والخوف من الخطر الديمغرافي) لتخفيف الضغط عن إسرائيل. الآن رأى اليمين الإسرائيلي أنه لا حاجة لمثل هذه الحلول لأنه بالإمكان الإبقاء على الوضع القائم، ولكن يجب تطوير أدوات السيطرة وهذا ما تقوم به إسرائيل في السنوات الأخيرة.
إذاً، ما الذي يمكن فعله الآن؟
ما أقوله إنه علينا وضع قانون القومية في سياقه العام، باعتباره يترجم التغييرات الحاصلة في إسرائيل سياسياً وثقافياً، وحتى في مجال الحكم والهيمنة. هو يعكس الصورة الحقيقية عملياً لإسرائيل الحالية وتأثيراتها في الحال الفلسطينية، ولذلك يجب أن يكون الرد موحّداً من كافة أطياف وشرائح الشعب الفلسطيني. عملياً، رغبنا أم لم نرغب في ذلك، بإرادتنا أو بفعل الواقع المتبلور، فنحن نسير باتجاه توحيد النضال الفلسطيني.
عندما تقول بتوحيد النضال الفلسطيني تعني كسر الكثير من القوالب، وتجاهل الخصوصيات القائمة والثابتة، ومنها مثلاً خصوصية الداخل وخصوصية القدس المحتلة؟
هذا أمر فرضته إسرائيل ولو نختره نحن من خصوصية، إسرائيل تضع هذه الخصوصية وتفرضها علينا.
ولكن، كيف سيتوحّد النضال في ظل الفوارق الموجودة، مثلاً في الضفة مواجهات مع الجنود، وهنا تظاهرات. ماذا تعني تحديداً؟
أنا لا أدخل في هذه التفاصيل لأنني لا أملك بالضرورة كافة الأجوبة عن تفاصيل النضال، لكن عناوين النضال السياسية هي إسقاط وتفكيك المشروع الاستعماري الإسرائيلي، أي تحويل إسرائيل إلى دولة ديمقراطية، فهذا ينهي الاحتلال. عندما تتحوّل إسرائيل من دولة استعمار إلى دولة ديمقراطية طبيعية، دولة كل المواطنين، أكان في حدود 1967، أو في حدود 1948، ولكن شرط أن تتغير الهيمنة اليهودية، عندها يمكن أن نتحدث عن الترتيبات: دولة واحدة، دولتان، دولة ثنائية القومية... لكن الآن من يتحكّم بالحلول هي إسرائيل، ونحن في الداخل بتنا جزءاً من الحل شئنا أم أبينا، أعجبنا ذلك أم لا. وقد يكون هذا أحد الانعكاسات الإيجابية لقانون القومية: توحيد الشعب الفلسطيني من جديد.
تحدثتَ عن توحيد النضال الفلسطيني، بالنسبة للسياق الفلسطيني الداخلي طرحتَ عدة خيارات بينها الاستقالة من الكنيست. أليس من الممكن مثلاً الاتجاه نحو حالة عصيان مدني شامل: استقالة من الكنيست، من سلك التعليم ومن سلك المحاماة والقضاء، وحتى الأطباء، كي يشعر الإسرائيلي العادي بأن هناك خللاً ما؟
لقد تلقى المجتمع العربي الصفعة الأولى، وارتدادات هذا القانون لم تنته ولم تتضح بعد، نحن أمام نضال مفتوح لا حدود زمنية له. فمثلاً تم سنّ قوانين الأبرتهايد عامي 1948 و1949، وسقطت فقط في مطلع سنوات التسعين في جنوب أفريقيا. وستكون هناك إسقاطات لقانون القومية سنشعر بها في حياتنا، فانظروا لما يحدث في الطائفة الدرزية. صحيح أن هناك من سيقبلون بتعويضات وفتات، ولكنْ، حتى المثقفون والنشطاء الذين كانوا قد غابوا عن ساحة العمل بدأوا يعودون اليوم إلى نشاطهم، وبدأ البعد العروبي والقومي للطائفة الدرزية يتعزز. الآن هذا القانون بإسقاطاته المتراكمة من شأنه أن يوصلنا إلى حالة لا بديل فيها أمامنا سوى الاتجاه بشكل جزئي مثلاً نحو العصيان المدني، وفي جزء آخر نضال مشترك مع كافة أطياف الشعب الفلسطيني تحت عنوان واحد. لغاية الآن، كان النضال الفلسطيني مقتصراً على إقامة دولة فلسطينية، وأنتم في الداخل "دبروا أموركم". لم يعد هذا كافياً اليوم، لأنه "لا في دولة فلسطينية ولا في دبروا حالكم في الداخل"، و"ما في خط أخضر"، لقد انتهى.
الخطوات التي أعلنت لغاية الآن في الداخل تبدو، بعبارة ملطفة، "نضالاً لايت" مخففاً. هل هذا يكفي؟
صحيح... كلا هذا لا يكفي، أعتقد أن الأمر سيكون تدريجياً، نحن سنقترح مثلاً الإضراب العام لكافة الشعب الفلسطيني بتاريخ 8 أغسطس/آب الحالي. هذا يمكن أن يكون رسالة، فكلما شعر الفلسطيني بأنه يثور تزداد ثقته. كما أننا نرى عند القيادات ككل، ارتباكاً، "مش عارفين قديش ناخذ الحدود ولوين نروح". يجب أن يكون المجتمع معنا، أي أن النضال سيكون باعتقادي متدحرجاً.
نحن أمام نضال مفتوح لأن الصراع بات مفتوحاً، بدلاً من إغلاق ملفاته المختلفة: ملفات 48، ملفات 67، وهذا أعاد النضال الوطني إلى نقطة الصفر، إلى حالة حركة تحرر وطني. وهذا كله بسبب غباء إسرائيل وطمعها وعنجهيتها، فقد كان بالإمكان إيجاد الترتيبات اللازمة، وكان لدى إسرائيل إمكانية لفرض شروطها، ما عدا مسألة يهودية الدولة، كان يمكن لها عقد صفقة سلام جيدة، ولكن سقط ذلك بسبب هذا التفكير المسيحاني، وبسبب هذا الغباء في التطرف اليميني الفاشي الذي يريد كل شيء للقول: نحن حققنا أكثر مما حققه حزب مباي التاريخي، هو أقام دولة على 78 في المائة من الأرض ونحن نريدها على 100 في المائة. هو جاء بالاندماج في العالم مقابل التنازلات ونحن نحقق الاندماج بفعل القوة الإسرائيلية، ها هي الدول العربية تطبّع مع إسرائيل بسبب قوة إسرائيل، وليس هناك حاجة بالضرورة إلى التوصل لسلام لتحقيق التطبيع، فهم يطبّعون معنا بفعل القوة والمصالح المشتركة، والمكانة العالمية. إسرائيل تؤثر في السياسة الأميركية الداخلية مثلاً أكثر مما تؤثر أميركا في السياسة الداخلية الإسرائيلية.
أنت ترسم صورة قاتمة. ماذا تبقى للفلسطينيين من أمل؟
الأمل هو في النضال. مجرد البقاء هنا يعني فشل محاولات إسرائيل طيلة مائة عام بالانتصار، فإسرائيل لم تنتصر. فهي بقانون القومية تعكس فشلها في ترويض الفلسطينيين في الداخل أولاً، وفي القضاء على المشروع الوطني الفلسطيني، وإن كانت تتحكم بوتيرة المشروع، أو لنقل بلهب الصراع وضبط الإيقاع، لكنها لم تُلغِ القضية.
نحن لم نُهزم. المستعمر لم ينتصر لغاية الآن، فهو لم يحصل بعد على الشرعية من الواقع تحت الاستعمار. إسرائيل بكل قوانينها وقوتها لم تهزمنا، وهي مضطرة للدفاع بواسطة قانون أساس، وليس عبر ممارسات وسياسات، على الرغم من وجود سلسلة قوانين مفصلة. لماذا هذا الهوس بتشريع هذا القانون إذا لم يكن بسبب الخوف الداخلي بأن المشروع لم يكتمل ولم ينتصر، وهناك حاجة لترسيخه؟
ولكن، هل يمكن تحقيق أهداف المشروع الفلسطيني ومواجهة هذا القانون في ظل الانقسام الفلسطيني؟
بالطبع لا يمكن، ولكن هذا لا يمنع أن يكون هناك حراك فلسطيني على مختلف الأصعدة، وباعتقادي هذا الوضع سيزيد من ثقل العمل السياسي الفلسطيني في الداخل، وسيرفع من تأثير هذا العمل والأهمية السياسية لمكانة فلسطينيي 48 في هذه المعادلات. هذا يحتاج إلى بلورة تصوّر جماعي لنا في الداخل كأحزاب، لأنه لم يعد صالحاً أن يحمل كل حزب مشروعه الخاص.
اليوم بتنا نعرف ماذا تريد إسرائيل، والسؤال ماذا علينا أن نفعل لمواجهة ذلك؟ ما زلنا كجماعة لا نملك تصوراً مبلوراً، سواء في الداخل أم على الصعيد الفلسطيني، فلا يزال التردد قائماً، لأن الكل لا يزال متمسكاً، وأقصد أيضاً الفصائل الأساسية، بحل الدولتين، وحتى حركة "حماس" في برنامجها الأخير توافق على دولة فلسطينية في حدود 67، سمّتها مؤقتة، أو أي شيء آخر، ولكن عملياً موافقة على حل الدولتين، وأي شيء آخر هو نسف لهذا المشروع. ولكن لا تزال هناك قراءة وتصوّر خاطئان بأنه في نهاية المطاف سيكون هناك حل الدولتين، وهذا غير صحيح لأن إسرائيل تقضي على أي إمكانية لإقامة دولة فلسطينية.