ووضع مجلس الدولة الرئيس المصري في موقف محرج، ليس فقط لأنها المرة الأولى التي تعارض فيها مؤسسة من داخل الدولة السيسي علناً، ولكن أيضاً لأنها قلصت احتمالات تصرفه في المشكلة القائمة مع القضاء، من دون مزيد من الاستعداء وتفاقم الأزمة. ويدرك العالمون بالطبيعة الشخصية للسيسي جيداً أنه لا يقدِم على تصرف رغماً عنه، أو على سبيل إرجاء الصدام، خصوصاً إذا كان الاستفزاز صدر من سلطة أو جهة أو شخص يتصور السيسي أنه أدنى منزلة من رئيس الجمهورية، لا سيما وأن السيسي كان أمامه فرصة نادرة لكسب القضاء في صفه للأبد، إذا كان رفض إقرار قانون اختيار رؤساء الهيئات القضائية، لكنه أصدره في تأكيد على توجهه للصدام مع القضاء وليس امتصاص الأزمة التي نشبت على مدار الشهور الأربعة الأخيرة.
وثمة خياران أساسيان أمام السيسي الآن، لكل منهما تبعاته السلبية على صورته كرئيس قوي، تدين له السلطة التنفيذية والتشريعية بالولاء التام، أو على العلاقة بينه وبين القضاء. الخيار الأول هو تفويت الفرصة على مجلس الدولة لتصعيد الأزمة، أو تحويل دكروري إلى بطل وضحية للنظام، وذلك باختياره رئيساً للمجلس وتطبيق ترشيح الجمعية العمومية، وهو خيار يتطلب من السيسي سعة صدر ليست معروفة عنه في قراراته السابقة بالأزمات المشابهة، فعلى الدوام كان السيسي يسلك الطريق الأكثر تصادماً مع منافسيه، أو من يتصور أنهم يتحدونه، كما فعل باختيار سامح كمال رئيساً لهيئة النيابة الإدارية في 2015 بدلاً من زميله الأقدم المستحق، هشام مهنا، وكما فعل بعزل هشام جنينة من رئاسة الجهاز المركزي للمحاسبات في 2016. وتبعاً لهذا الخيار سيغلق باب التصعيد القضائي والقانوني أمام قضاة مجلس الدولة، فلن يعود بإمكان أحدهم الطعن على قرار السيسي أمام المحكمة الإدارية العليا، أو الطعن على القانون أمام المحكمة الدستورية. وفي المقابل، سيكون أمام السيسي العديد من الأوراق لرد الصفعة لمجلس الدولة للتأكيد على أن قضاته لم يملوا شيئاً عليه، وأنه اختار دكروري بإرادته الحرة، وأنه لم يكن مستهدفاً بالأصل من إصدار هذا القانون.
أوراق ضغط بيد السيسي
ووفقاً لتوقعات مصادر في وزارة العدل ومجلس النواب، فهناك العديد من الأوراق التي يملكها السيسي للضغط على مجلس الدولة، سواء عيّن دكروري أم لا، كتمرير مشروعات قوانين تهدد اختصاصات المجلس، أو تلغي الانتدابات التي من المقرر أن يتم إلغاؤها في يناير/كانون الثاني 2019 بموجب الدستور، خصوصاً أن انتداب قضاة المجلس في الجهات الحكومية، كمستشارين قانونيين، يعتبر المصدر الرئيسي لمستوى المعيشة المميز الذي يحظى به قضاة مجلس الدولة، قياساً بباقي القضاة وأعضاء النيابة الإدارية وهيئة قضايا الدولة، لا سيما وأن وزارة العدل سبق وأعدت مشروعاً للحد من ظاهرة ندب القضاة، لكنه لم يمر رسمياً حتى الآن.
ومن بين الأوراق التي يملكها السيسي أيضاً للضغط، خفض ميزانية مجلس الدولة في الموازنة العامة الجديدة للدولة، وهي الميزانية التي تتزايد باستمرار، وتشمل جميع الرواتب والبدلات والحوافز، كما يصرف منها على تنفيذ الأحكام القضائية التي يحصل عبرها القضاة على بدلات، أو حوافز، نظير ما يصفونه بـ"الجهود غير العادية"، أو "العمل الصيفي"، أو "الفصل في طعون إضافية"، أو "العمل الإداري بجانب العمل القضائي". وتمثل الشؤون المالية محوراً رئيسياً في الخلاف بين السيسي من جهة، وبين القضاء بصفة عامة ومجلس الدولة خصوصاً، فمجلس الدولة سبق وأفرغ قانون الحد الأقصى للأجور، الذي أصدره السيسي، من محتواه، مستثنياً القضاة من تطبيقه وكذلك فئات أخرى من بين الأعلى دخلاً داخل أجهزة الدولة.
كما سبق واعترض وزير المالية، عمرو الجارحي، على تنفيذ أحكام قضائية استصدرها القضاة بمنحهم بدلات ومعاشات إضافية، إلى جانب تسليط السيسي هيئة الرقابة الإدارية لمراقبة التصرفات المالية للقضاة، ما نتج عنه تفجير قضية الرشوة الجنسية والمالية التي انتحر على إثرها الأمين العام السابق لمجلس الدولة، المستشار وائل شلبي، مطلع العام الحالي. ويقول مصدر في محكمة استئناف القاهرة إن هذا الخيار سيكون له أثر سلبي على علاقة السيسي بباقي القضاة. وحتى إذا استخدم أوراق ضغط أخرى على مجلس الدولة، فإن اعتماد ترشيح دكروري سيعني، ولو بشكل سطحي، أن السيسي رضخ للهيئة القضائية الوحيدة التي لم تنفذ القانون، بينما اختلف تعامله مع مجلس القضاء الأعلى والنيابة الإدارية وهيئة قضايا الدولة التي احترمت القانون، وأرسلت كل منها 3 ترشيحات للرئاسة، خصوصاً مع ارتفاع أسهم الإطاحة بالقاضي أنس عمارة من أقدميته المستحقة كرئيس لمحكمة النقض، بحجة انتمائه للتيار الإسلامي، والمستشارة رشيدة فتح الله من أقدميتها المستحقة كرئيسة للنيابة الإدارية، بحجة بلوغها سن التقاعد خلال العطلة القضائية المقبلة، أي قبل أكتوبر/تشرين الأول المقبل. ويوضح المصدر أن السيسي إذا أقدم على هذا التصرف فإن ذلك سيعني للقضاة أنه يخشى مجلس الدولة، ويحاول مغازلته حتى إذا خالف القانون، وهو ما سيثير بالتأكيد مشاكل بينه وبين باقي الهيئات، خصوصاً أنها جميعاً ترى أن مجلس الدولة يحظى بمكانة استثنائية، نتيجة ندب معظم أعضائه كمستشارين في الجهات الحكومية.
سيناريوهان لإدارة الصراع
أما الخيار الثاني أمام السيسي، وهو الأوسع والذي ترجحه المصادر القضائية والحكومية على حد سواء، فهو اختيار أي عضو آخر من بين أقدم 7 أعضاء في مجلس الدولة كرئيس له بدلاً من دكروري. وهذه المرة، فإن رد السيسي لن يكون مرتبطاً بشخص دكروري بقدر كونه ردا على معارضة مجلس الدولة له، وتعمّد قضاته مخالفة قانون أصدرته السلطة التشريعية وأقره رأس السلطة التنفيذية. وهذا الخيار له سيناريوهان، الأول أن يختار السيسي أحدث الأعضاء السبعة الأقدم، أو أحد الأعضاء الذين لا تؤهلهم أقدميتهم لتولي رئاسة المجلس مستقبلاً، وهو سيناريو سيكون الهدف منه التنكيل بالمجلس وقضاته، وإجبارهم على ابتلاع الإساءة أو الاستقالة احتجاجاً على تولي الأحدث رئاسة الأقدم، وهو ما لا يطيقه القضاة تبعاً لتقاليدهم وأعرافهم. وفي هذه الحالة ستنتقل المعركة بين السيسي ومجلس الدولة إلى مرحلة عض الأصابع، وسيستخدم فيها السيسي العديد من أوراق الضغط المذكورة سلفاً، وسيرد المجلس من خلال تشديد رقابة محاكمه على قرارات السيسي ومشروعاته المختلفة.
أما السيناريو الثاني في هذا الخيار، فهو أن يتعمّد السيسي إحداث شقاق في مجلس الدولة، عبر اختيار المستشار أحمد أبو العزم، الذي تؤهله أقدميته لرئاسة المجلس في العام القضائي 2018 -2019. فمن ناحية هو يملك أحقية في رئاسة المجلس مستقبلاً، ما لن يشجع معظم القضاة على تحديه أو الخروج عليه، ومن ناحية أخرى يملك شعبية معتبرة داخل المجلس، ومن ناحية ثالثة له تاريخ قضائي عريض بالعمل في معظم أقسام المجلس القضائية والإفتائية والتشريعية.
بين الخلاف الداخلي والضغط المضاد
وتؤكد مصادر قضائية رفيعة المستوى أن هذا الشقاق المحتمل وقوعه سيؤدي إلى خلافات شديدة، قد تصل إلى تعطيل العمل ببعض أقسام المجلس، احتجاجاً على تجاوز قرار الجمعية العمومية، بهدف التصعيد ضد السيسي، أو إجبار بديل دكروري على الاستقالة وليس الاعتذار. علماً أن قانون مجلس الدولة لا يتضمن حالة الاعتذار عن رئاسة المجلس، بل يتيح فقط استقالة القاضي من أي منصب تم تعيينه به، وهو ما لن يقدم عليه أي شخص بسهولة. وتوضح المصادر أن هناك خلافات حادة داخل المجلس الخاص للشؤون الإدارية، الذي يضم أقدم 7 أعضاء في مجلس الدولة، ظهرت جلياً خلال الجمعية العمومية، التي عقدت أول من أمس، ما يفتح الباب أمام احتمالات مواجهة داخلية وانقسام شديد في حالة تعيين أي شخص غير دكروري، إذ كان دكروري والقاضيان التاليان له في الأقدمية، فايز شكري ومحمد زكي موسى، يريدون ترشيح أقدم 3 أعضاء لرئيس الجمهورية، بينما كان أبو العزم يقود تياراً مناوئاً، يريد طرح أسماء أقدم 7 قضاة على الجمعية العمومية للتصويت عليهم جميعاً. وترى المصادر أن هذا الخلاف بين أقدم 7 أعضاء كان من العوامل التي دفعت السواد الأعظم من أعضاء الجمعية العمومية لاعتناق المقترح الثالث بترشيح دكروري منفرداً للمنصب.
وأياً كان السيناريو، فخيار مخالفة قرار مجلس الدولة سيجعل السيسي عرضة للتصعيد القضائي على أكثر من مستوى. وسيكون من حق دكروري أن يطعن على تجاوزه في الاختيار لرئاسة المجلس، مع طلب إحالة القانون الجديد إلى المحكمة الدستورية العليا، كما يمكن أن يقيم أعضاء الجمعية العمومية دعاوى منفصلة ضد القرار بحجة إهداره قرارهم الجماعي. أما ورقة الضغط، أو الرد الأبرز، المتاحة في يد قضاة مجلس الدولة، فهي تشديد رقابة المحاكم على قرارات السيسي الهامة في قضايا منظورة حالياً لم يصدر فيها الحكم بعد، وعلى رأسها الدعاوى ضد إبرام اتفاقية الاقتراض من صندوق النقد الدولي، والاقتراض من روسيا، وزيادة أسعار الطاقة، ومخططات تسكين الفلسطينيين في سيناء، بالإضافة إلى الدعاوى الجديدة المرتبطة بقضية تيران وصنافير، والتي تطعن بإحالة الاتفاقية إلى مجلس النواب تمهيداً لإصدارها، وجميعها دعاوى تستهدف الضرب في جذور سياسات السيسي الإقليمية والاقتصادية.