ما ذكرته المعلومة التي نبشتها صحيفة "واشنطن بوست" أو ربما تكون قد حصلت عليها من مصدر في الوكالة تبرّع بتمريرها إلى الجريدة، لا جديد فيها سوى أنها أكدت المؤكد والمعروف المعزز بفيض من الأدلة الظرفية التي تدعم الشبهة. حتى حيثيات "الاستنتاج" التي نسبتها الصحيفة إلى المصدر ليست جديدة، ما عدا ضبط المكالمة الهاتفية التي جرت بين خاشقجي والأمير خالد بن سلمان سفير المملكة في واشنطن الذي طمأن خلالها خاشقجي وحثه على تخليص المعاملة في القنصلية بإسطنبول. وفي ذلك ما يحمل على الظن وليس بالضرورة على الاعتقاد، بأن السفير السعودي ربما يكون قد شارك في نصب الكمين للمغدور به. ويذكر أن السفير كان قد غادر واشنطن بعد أيام قليلة من وقوع الجريمة ولم يعد إليها حتى الآن.
الجديد في الأمر أن "سي آي إيه" هي الجهة الأميركية الرسمية الأولى التي تصوب إصبع الاتهام المباشر وبدون مواربة، إلى ولي العهد وبالاسم. فلم يسبق أن صدر عن مسؤول أميركي كلام في هذا الموضوع بمثل هذا الجزم. كثير من المسؤولين، خاصة في الكونغرس، أشاروا بالتلميح أو بالتصريح إلى المتهم ذاته، من باب أنه من غير المعقول في نظام مثل السعودية أن ترتكب جريمة من هذا النوع من دون علم أصحاب القرار وموافقتهم، لكن الحديث عن التجريم بقي في حدود الشك والترجيح.
الآن تأتي هذه المرجعية الاستخباراتية لتطلق ما يشبه الحُكم القاطع في هذه القضية، وفق رواية "واشنطن بوست". حسب المعروف، تخلص "سي آي إيه" إلى تقديراتها عبر سلوكها منهجاً تحليلياً مجرّباً للمعلومات التي تجمعها. والاعتقاد أن خلاصتها هذه توصلت إليها منذ فترة. ثم تعززت بالتسجيل الذي حصلت عليه من الجانب التركي.
وعادة في حالات من هذا النوع، ترفع الوكالة خلاصاتها عندما تصبح جاهزة إلى المراجع المعنية في الإدارة، وبالتحديد إلى البيت الأبيض. وما عزّز صحة الرواية ليس فقط صدقية "واشنطن بوست" والثقة بمصادرها، بل أيضاً أن الإدارة بدت مرتبكة في التعامل مع هذا التطور المفاجئ والذي يشير إلى تنامي الخلاف في صفوفها حول التعاطي مع موضوع خاشقجي.
وأمس جاءت استقالة المسؤولة في البيت الأبيض عن الملف السعودي، كيرستن فونتنروز، لتكشف عن مدى التوتر في هذا الخصوص.
بدوره، حاذر الرئيس دونالد ترامب تكذيب رواية الصحيفة بصورة قاطعة، وضع حولها علامة استفهام بقوله "إنهم (أي سي آي إيه) لم ينتهوا بعد من التقييم". تبعته الناطقة في وزارة الخارجية هاذر ناورت بتعليل من الطينة ذاتها، إذ زعمت أن "التقارير – الصحافية – التي ذكرت أن الإدارة توصلت إلى خلاصة نهائية في قضية خاشقجي، غير صحيحة". كذلك نأت عن دحض الرواية التي تدور حول تقييم "سي آي إيه" وليس حول الموقف النهائي للإدارة.
دوران واضح حول الموضوع المتوقع أن يصدر بشأنه "تقرير" يوم الثلاثاء المقبل، كما وعد ترامب بعدما تداول الأمر مع مديرة الوكالة جينا هاسبل ووزير الخارجية مايك بومبيو. تقرير يكون بمثابة إخراج ملتوٍ لاستنتاج الوكالة، وبما يسمح باستمرار المراوغة في الموقف من الجريمة، والذي انكشف بشكل محرج ومعرقل للمساعي الجارية لتحييد ولي العهد من الصورة، وبما يسهل على إدارة ترامب الاكتفاء بإجراءات تطاول عدداً من الأمنيين السعوديين، سواء بمحاكمتهم في المملكة أو بفرض عقوبات أميركية عليهم.
الآن، اختلف المشهد وتبدلت قواعد اللعبة، المتهم بات في وسط دائرة الضوء. محاولات التعمية انفضحت من قبل مرجعية من الصعب تجاوز تقديرها في هذه القضية أو التراجع عنه، والأهم أنه سيعطي مادة دسمة لتيار واسع في الكونغرس يدعو إلى اتخاذ خطوات عقابية أبعد بكثير مما ينوي الرئيس اتخاذه. وما لا يقل أهمية عن ذلك هو أن هذا التطور من شأنه أن يشحن الأجواء الأميركية الناقمة على قيادة المملكة بمزيد من النفور والرفض، خاصة في وسائل الإعلام المؤثرة التي يبدو أن جريمة خاشقجي قد استوطنت فيها وصارت واحدة من القضايا التي تعتزم مطاردتها حتى النهاية لكشف كامل حلقاتها.