لم يكن صدفة أن قتل الاحتلال فلسطينيين أمس الجمعة، بالرصاص في أطراف القدس المحتلة، في القرى التي كانت يوماً تابعة لمحافظة القدس وأعلنها الاحتلال جزءاً من "المدينة الكبرى"، طمعاً في أراضيها، التي بنى عليها بؤراً استيطانية. فقد سقط 3 شهداء أمس في كل من رأس العمود، القرية التي باتت حياً يستوطنه غلاة اليمين بتمويل اليهودي الأسترالي إيرفين ميسكوفيتش، وقرية الطور المطلة على المسجد الأقصى وتحتضن مستشفى المقاصد الإسلامية، وفي أبو ديس، شرقي القدس. وقد انتهج الاحتلال أمس الجمعة، خطة يبدو الآن أنها كانت مدروسة، ليس فقط في عزل المدينة والبلدة القديمة تحديداً، ومنع الوصول إليها، بل رافق ذلك، على مدار الأيام السابقة، أيضاً عزل ومحاصرة وتضييق على سكان القرى المحيطة في القدس وعلى أطرافها، بدءاً من العيساوية على جبل المشارف، ومروراً بالطور، وحي الصوانة، ووادي الجوز، وصولاً إلى جبل المكبر، في الحلقة الأولى المحيطة بالقدس القديمة، ليتوسع منها باتجاه الدائرة الثانية شمالاً في بيت حنينا وشعفاط والرام. ويبدو أن الفلسطينيين أدركوا خطة الاحتلال تلك، فزادوا حشودهم في تلك المناطق، ليكون نفير يوم أمس، ربما، تمهيدا لغضب أكبر، يرى البعض أنه قد يصل إلى ما وصلت إليه انتفاضة الأقصى عام 2000.
ودلت أحداث الأمس على أن الاحتلال، عمد في توزيعه لآلاف عناصره من الشرطة وحرس الحدود، إلى تقسيم المدينة وأحياء الدائرة الأولى المحيطة بالبلدة القديمة بعد عزل الأخيرة، إلى "مربعات" ليتسنى له السيطرة الكاملة على جموع من يستطيع الوصول إلى المدينة لإقامة صلاة الجمعة، في أقرب نقطة عليه من المسجد الأقصى. وبهذه الطريقة ضمن الاحتلال وجود ثلاثة تجمّعات أساسية في المدينة نفسها، وعلى مقربة من أسوار البلدة القديمة شارك في كل منها آلاف من المقدسيين، في باب العمود، وفي شارع صلاح الدين، على مشارف باب الأسباط، حيث صلى من يسكن داخل الأسوار القديمة، وعند باب المجلس.
لكن سقوط الشهداء الثلاثة، لن يكون كغيره من حالات استشهاد عرفتها القدس المحتلة في العامين الأخيرين، لأن سياق الاستشهاد جاء مشحوناً بالنفير للمسجد الأقصى وبتعبئة فلسطينية في القدس، مطعّمة بالدافع الديني والعقائدي في مواجهة محاولات الاحتلال إذلال جموع المصلين في دخولهم للأقصى. وعلى مدار الأيام الأخيرة، كان واضحاً الإصرار الفلسطيني المشتقّ من فهم ديني، بأن الهدف من وراء البوابات هو أولاً الانتقام من أهالي المدينة المقدسة من مقتل عنصرين في شرطة الاحتلال، في الاشتباك المسلّح يوم الجمعة من الأسبوع الماضي في الأقصى. والأهم من ذلك هو القناعة الراسخة في نفوس المقدسيين، بأن الاحتلال يسعى لإذلالهم، رجالاً ونساء في دخولهم للأقصى.
وقال أحد المقدسيين، ويدعى أبو إيهاب، لـ"العربي الجديد"، إنه "عندما نخضع لتفتيش أمني أو بوابات إلكترونية في مراكز ومؤسسات إسرائيلية، فهو لأنها مراكز احتلال نعرف أنها عدوة لنا. أما أن يفرضوا علينا ذلك في دخولنا لمسجدنا، فإن هذا لن يحصل، مهما كلّف الثمن".
التصميم على رفض شروط الاحتلال المذلة هو السائد في القدس، مع بلوغ حالة الغضب ذروتها في استعادة لشعارات وهتافات لم تسمعها القدس منذ أيام الشهيد ياسر عرفات، وزاد عليها الموروث الديني هتافات جديدة: "عالأقصى رايحين شهداء بالملايين"، ترديداً لنداءات أبو عمار خلال حصاره في المقاطعة. وبين شعار عرفات والشعار الديني، عادت أيضاً شعارات أيام الانتفاضة الأولى: "حط الخاين والعميل على بوز المدفع". وحالة الاحتقان المتزايدة بفعل القمع اليومي والاستفزازات لشرطة الاحتلال عند بوابات المدينة وعند مداخلها، تتجلّى باستفزازات قذرة للمسنين والنساء والفتيات عند كل مناسبة، ناهيك عن تسلط موظفي البلدية على الركاب والسائقين في كل مكان.
وفي أطراف المدينة وعند القرى المحاصرة، اندلعت المواجهات في أحياء كان الاحتلال أحكم إغلاقها منذ ساعات الليل الخميس ـ الجمعة، لمنع وصول أهلها إلى القدس. وعاشت أحياء، العيساوية والطور ورأس العمود ساعات من المواجهات مع الاحتلال، وسقط شهيد رأس العمود برصاص مستوطن استوطن في الحي تحت حراب الاحتلال وحراسته.
مشاهد يوم النفير في القدس أمس، تشي بأن الانفجار آت وأن المارد الفلسطيني بدأ يتململ إيذاناً بالنهوض. هي مشاهد تغذيها أيضاً المرجعيات الدينية في المدينة بعد أن خفت صوت ما تبقى من مرجعيات وطنية. وهو ما فُسّر بترداد هتافات مناهضة أيضاً للسلطة الفلسطينية. الانتفاضة الفلسطينية باتت قاب قوسين أو أدنى، في مواجهة احتلال يبدو أنه مستكين إلى غزل أنظمة العرب التي تدعوه لصفقة القرن وهو يتمنع.