أنهى البرلمان العراقي يوم السبت رسم صورة المشهد العراقي العام في البلاد، من خلال تكريس سلطة المليشيات وتعزيز نفوذ رجال الدين على حساب دولة المؤسسات المدنية التي كانت إحدى أحد أبرز الذرائع الأميركية في غزو البلاد عام 2003. حصل ذلك من خلال إقرار قانون تشريع مليشيات "الحشد الشعبي" الذي منحها كياناً عسكرياً مستقلاً لا يرتبط بوزارة الدفاع بل بشخص رئيس الوزراء. وأقر لـ"الحشد" أيضاً، بحسب القانون الذي بات نافذاً، قواعد ومعسكرات خاصة وموازنة مالية سنوية ثابتة، كلها مخصصة لتشكيلات قتالية مختلفة ومنفصلة عن استخبارات وزارتي الدفاع أو الداخلية. وتم تعريف مليشيات "الحشد"، وفقاً للقانون الجديد، بـ"القوة الرديفة للجيش". ومنحت امتيازات حرِصَ القانون على ذكرها، من بينها الحصانة القانونية لأفراد "الحشد"، إذ يشترط موافقة رئيس الوزراء على محاسبة القضاء لأي منهم. وبات من حق "الحشد" الدخول إلى المدن والقيام بعمليات عسكرية بعد الرجوع لرئيس الحكومة.
ويعتبر القانون بصيغته الحالية مخالفاً للمادة التاسعة من الدستور العراقي، والتي نصت على "حصر المليشيات المسلحة بكافة أشكالها وتفاصيلها وحصر السلاح بيد الجيش والشرطة"، وهو ما أوجبته المادة 126 و142 من الدستور نفسه بوجوب إجراء استفتاء شعبي عام في حال استوجب تشريع قانون يخالف ما جاءت به إحدى مواد الدستور. وتم تقديم تشريع القانون قبل نحو شهرين من قبل كتلة حزب الدعوة برئاسة نوري المالكي، والتي تمتلك جناحاً مسلحاً يعرف باسم مليشيات "كتائب الإمام علي"، وكتلة بدر التي تمتلك مليشيات "بدر"، وبتأييد من كتل أخرى أبرزها "المجلس الأعلى" و"الفضيلة". وكان المالكي كشف عن هذا القانون في كلمة له خلال مؤتمر ديني بحضور رئيس الوزراء الحالي، حيدر العبادي، عندما ردد ثلاث مرات "قادمون يا موصل قادمون يا حلب قادمون يا رقة قادمون يا يمن".
وتأسست مليشيات "الحشد"، المؤلفة حالياً من 71 مجموعة مسلحة بتعداد قوامه نحو 140 ألف عنصر وفقاً لآخر أرقام صدرت مطلع نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، في 13 يونيو/حزيران عام 2014، بفتوى من المرجع الديني علي السيستاني، وذلك بعد أقل من 48 ساعة على اجتياح تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) مساحات واسعة من العراق.
وجاء قانون "الحشد" مناقضاً لمشروع أميركي جرى تسويقه مطلع عام 2015، وعرف حينها باسم "قوات الحرس الوطني". واقترحت واشنطن تشكيل قوات من أبناء المناطق ذات الغالبية العربية السنية شمال وغرب العراق، على أن يتم تدريبها من قبل الولايات المتحدة ودول غربية وعربية أبرزها الأردن ومصر. وكانت تريد واشنطن أن تتولى قوات كهذه ملف أمن المدن ومحاربة تنظيم "داعش" وأن تكون تحت إمرة وزارة الدفاع العراقية وقيادة عمليات المنطقة التي تعمل في نطاقها. لكن مشروع إنشاء هذه القوات لم ير النور، بسبب اعتراض الكتل النيابية الشيعية عليه تحت ذريعة أنه يمثل "تشكيلاً طائفياً يرفضه الدستور"، مع أن رئيس الحكومة، العبادي، كان قد تعهّد بتطبيقه.
حرس ثوري واسع الصلاحيات
وتحمل مواد القانون الذي أقره البرلمان العراقي فقرات واسعة تشبه إلى حد بعيد الفقرات الموجودة ضمن المادة الخامسة بعد المائة من الدستور الإيراني المتعلقة بقانون الحرس الثوري، لا سيما في ما يتعلق بمهام "الحشد الشعبي" وامتيازاته وارتباطه وتمويله، فضلاً عن تكوينه الطائفي الذي اقتصر على طائفة واحدة دون غيرها.
ويتحدث القانون المذكور عن تشكيل عسكري لـ"الحشد الشعبي" يرتبط بالقائد العام للقوات المسلحة، أي أنه لا سلطة لوزارة الدفاع ولا لقيادة العمليات المشتركة عليه. وهذا يعني أنه تشكيل شيعي بأغلبيته المطلقة، يكون تحت أمر رئيس الوزراء الشيعي وسيكون أكثر طائفية من جهاز الشرطة الاتحادية المشكلة في عهد المالكي، والتي اقتصرت على أبناء جنوب العراق في بنائها بسبب طغيان العقيدة الطائفية فيه.
ويستثني القانون شرطَيْ العمر والشهادة العلمية لمنتسبي "الحشد الشعبي". وهذه سابقة في المؤسسة العسكرية، خصوصاً في ما يتعلق بالضباط والقادة. كما يتحدث القانون عن "تكييف" منتسبي "الحشد الشعبي"، أي سيكون هناك ضباط وآمرون وقادة في تلك المؤسسة من المطلوبين للقضاء العراقي وحتى الأوروبي، بتهم ارتكاب جرائم ضد الإنسانية. ويتم منحهم من خلال هذه الفقرة حصانة تامة. ويتحدث القانون عن فك ارتباط منتسبي "الحشد الشعبي" من أطرهم السياسية والحزبية والاجتماعية. لكن هذه خديعة كبيرة، إذ إن جميع قادة المليشيات ينتمون للأحزاب الحالية، خصوصاً في ظل وجود 32 مليشيات حالية تمثل أجنحة مسلحة للأحزاب الموجودة داخل البرلمان والحكومة اليوم.
ولم يوضح القانون الجديد دور قوات الجيش وطبيعة علاقتها مع "الحشد الشعبي" ولمن ستكون اليد الأعلى في المنطقة أو المحافظة أو المدينة التي ينتشر فيها الطرفان بشكل ثابت. إلا أن المادة الرابعة من القانون التي نصت على منح "الحشد الشعبي حق استخدام القوة اللازمة والقيام بما يلزم لردع التهديدات الإرهابية والأمنية وكذلك تحرير المدن من الجماعات الإرهابية وكل من يتعاون معها تحت أي مسمى كان"، تجعل من "الحشد" قوة أعلى من الجيش العراقي الحالي. فالدستور ينص على عدم تحرك الجيش إلا بأوامر من وزير الدفاع ويحرم عليه استخدام القوة في المدن إلا بأمر من رئس الحكومة. كما يُمنع من تنفيذ مهمات اعتقال إلا بأمر من القضاء، وفقاً للمادة 61 من الدستور، وهو ما لا يتم فرضه على عمل "الحشد" مستقبلاً وفقاً لهذا القانون.
وفي هذا الصدد، يقول المحلل السياسي العراقي، فؤاد علي، لـ"العربي الجديد" إن "الحشد بات مسمار تثبيت الوضع السياسي الراهن لصالح إيران وازدياد عزلة العراق عن محيطه العربي". وأشار إلى أن الجيش العراقي، المدعوم من واشنطن، يعاني من مشكلة تفوق الولاء الطائفي على الولاء الوطني لدى عناصره، فضلاً عن كونه ممزقاً. ورأى أنه في ظل هذا الوضع، يمثل إقرار "قانون الحشد" خطوة بالغة الخطورة، على غرار قرار حل الجيش السابق، عام 2003، أو قرار تثبيت المحاصصة الطائفية كخيار حكم للعراق. ووصف التصويت في البرلمان يوم السبت، بأنه كان تصويتاً على ولادة الحرس الثوري العراقي وليس على تأسيس لنظام مليشيات ثابت في العراق.
في المقابل، هناك وجهة نظر أخرى وفقاً لمراقبين للشأن العراقي، تقول إن تشريع قانون "الحشد الشعبي" قد جعل هذه المليشيات تحت سلطة القائد العام للقوات المسلحة، أي رئيس الوزراء، للمرة الأولى، ومن شأن ذلك أن يضبط حركتها. إلا أن فصائل "الحشد الشعبي" المرتبطة بمرجعيات دينية موالية لولاية الفقيه الإيرانية تمنع ذلك. وفي هذا الإطار، تجدر الإشارة إلى أن رئيس الوزراء وغيره من مسؤولي "الحشد"، كانوا يكررون دوماً أن هذه المليشيات هي هيئة تابعة للقائد العام للقوات المسلحة، مما يجعل التساؤل مشروعاً لمعرفة ماذا أضاف هذا القانون سوى أنه فرض واقعاً سياسياً بغطاء طائفي، وخلق قوة عسكرية طائفية بغطاء قانوني، لها صلاحيات واسعة لم تكن أصلاً بحاجة لها لتنفيذ مزيد من الجرائم التي عرفت بها خلال العامين الماضيين.