وتبدو النقمة العارمة وكأنها تجاوزت رد الفعل على خنق أميركي أسود تحت ركبة شرطي أبيض. صارت أقرب إلى التعبير عن رد على اختناق أوسع، عنصري – سياسي – طبقي، فاقمه الوباء ومضاعفاته.
لكن الأصل موجود قبل الفيروس ومقتل جورج فلويد كان الشرارة التي أشعلت نار "طفح الكيل"، ليس فقط ضد الشرطة بل أيضاً ضد الخلل المتزايد في النظام الذي تحميه. تبدّى ذلك في أكثر من تعبير، أبرزه تمدد التظاهرات إلى حوالي مئة مدينة ومحلة والمشاركة الواسعة والمختلطة، بالرغم من خطر كورونا، خصوصاً في مدن رئيسية مثل نيويورك وواشنطن التي جاءتها الموجة العارمة مساء أمس الأحد حيث وصلت نيران الحرائق إلى حديقة لافاييت بارك المواجهة للمدخل الأمامي للبيت الأبيض وبما حمل السلطات الأمنية على نقل الرئيس من باب التحوط إلى مخبأ تحت الأرض في البناية الحكومية المجاورة للمقر الرئاسي.
وكان التوجه نحو البيت الأبيض واضحاً في رمزيته السياسية. كما اتضح التسييس في قرار الإدارة بتصنيف حركة "أنيتفا" إرهابية. وهي كناية عن تكتل معاد للفاشية لا مقر له ولا هو ذو تركيبة تنظيمية، اتهم بأنه اندس في التظاهرات مع "متطرفي اليسار والفوضويين" لتأجيج الفوضى والتصادم مع الشرطة والقوات الأمنية.
وكانت مصادر قد تحدثت عن تواجد عناصر بـ"لباس أسود" وسط بعض التظاهرات وأنها عملت بصورة منظمة وهادفة لتزخيم الصدام مع القوات الأمنية وتصعيد تسييسه. لكن في غياب الأدلة والتحقيق، أعربت جهات عن مخاوفها من أن يكون مثل هذا الزعم مقدمة للمزيد من عسكرة الشرطة والتعويل على الحل الأمني الخالص في المواجهة الجارية وربما في مواجهات أخرى سياسية قادمة.
وأثارت العسكرة والظهور الأمني المدجج بالأسلحة قلق جهات كثيرة ليبرالية وغيرها من تحول الوضع إلى مشهد غير مقبول "لأننا لا نريد أن نعيش وكأننا في أرض محتلة" على حد تعبير الخبير الجمهوري سابقاً ستيف شميدت. ويشار إلى أن الرئيس ترامب في اتصاله اليوم الاثنين مع حكام الولايات قد حثهم على "السيطرة على الموقف" متهماً بعضهم بـ"الضعف". وكان حذر في تغريدة سابقة من احتمال "البدء في إطلاق النار إذا جرت أعمال نهب". لكن حصل تراجع عن ذلك بعد انتقاد من أنصاره ولم يجر الرد بالذخيرة الحية بالرغم من وقوع أعمال شغب وسرقة لمحلات تجارية على يد عناصر اغتنمت الفرصة للتكسير والنهب، كما حصل في سانتا مونيكا بولاية كاليفورنيا وفي مدينة نيويورك. لكن سقط قتيل من بين المتظاهرين في ولاية كنتاكي واثنان في ولاية إنديانا.
في بعض المدن، ساهم تكثيف قوى الأمن في تبريد الوضع. في حين احتفظت ولايات أخرى بسخونتها. قوات الحرس الوطني لوحدها المنتشرة صارت بحدود 62 ألفاً، ما عدا الشرطة المحلية وقوى الأمن التابعة للولاية.
"البلد على حدّ السكين" بتعبير آدي غلود، الأستاذ في جامعة برينستون. الإدارة تقول إنها تواجه "حرب مدن منظمة". المعادلة دقيقة وقابلة للالتهاب. حيثية الأمن مقابل حيثية الغبن والخلل الكبيرين المتراكمة عواملهما منذ عقود وقرون. ومن الصعب التسوية بينهما في زمن كورونا ومصائبها وفي محطة قريبة من انتخابات الرئاسة. فعندما يخرج الآلاف يوماً بعد يوم بالرغم من خطر الوباء، معنى ذلك ان المسألة لم تعد تُحتمل. وعندما يحض الرئيس على الحسم الأمني، معنى ذلك أن الأولوية لحساباته الانتخابية. وبين الاثنين، لا يبدو أن الفسحة المتاحة تسمح بالتلاقي أكثر من تقليل الخسائر إذا أمكن.