رئيس حكومة الاحتلال في مسقط، ووزيرة إسرائيلية في مسجد الشيخ زايد، ووفد رياضي في الدوحة، هذا المعلن. أمّا المخفي في عواصم عربية أخرى، فالله أعلم بتفاصيله. غيّرت إسرائيل مداخلها إلى البيت العربي، كأنما قرأ الإسرائيليون من القرآن "وادخلوا من أبواب متفرقة"، فلم تعد القاهرة وحدها بوابة التطبيع، كما لم تعد الدبابة وحدها السبيل لإنجاز التسوية. اقتنعت إسرائيل بأنّ ما يمكن تحقيقه بالتطبيع الثقافي والسينما ورخام التعايش والتطبيع الرياضي والعلمي، أزكى بكثير مما كسبته في الحروب.
لعلّ المدبر الإسرائيلي راهن على عاملين رئيسيين في كل ذلك، شرعية الواقع حين اختلست إسرائيل رقعة من التاريخ لتستقر على قطعة في الجغرافيا العربية وفرضت نفسها تماماً كما يفرض السرطان نفسه على الرجل المريض، ثم الزمن كعامل لتناسي أجيال عربية رصيداً من الدم وحساباً متأخراً مدوناً في دفتر الألم العربي ومقيداً على إسرائيل تدفع حسابه إن ليس عاجلاً فآجلاً.
لكي ينجح التطبيع مع إسرائيل، سيتعيّن على هذه الأخيرة وشركائها من قادة التطبيع الانتظار طويلاً حتى تنقرض أجيال عربية كاملة، وتصدأ مفاتيح بيوت الحارات والبلدات العربية التي ما زالت بيد أصحابها في فلسطين والشتات. ما زال الوقت مبكراً، ولذلك ستملّ إسرائيل وشركاؤها الانتظار كثيراً، تماماً مثلما ملّت فرنسا - وقد مرّ أكثر من نصف قرن - انتظار نهاية جيل جزائري ما زال يحمل في الجسد والذاكرة جروحاً غائرة من زمن الظلام الاستعماري، لتباشر مسار التطبيع التاريخي مع الجزائر، ذلك لأن (وزير الخارجية الفرنسي الأسبق برنار) كوشنر يلد كوشنر في باريس، ومحمد يلد محمد في الجزائر.
ولكي ينجح التطبيع أيضاً، يتعيّن على إسرائيل وشركائها تفجير الكون من جديد وإلغاء سابق الزمن وتشكيل الجغرافيا مجدداً. مقارنة بفرنسا، إسرائيل ليست سوى تلميذ نجيب. في الجزائر ظلّت فرنسا لـ132 عاماً ـ وكذلك تفعل إسرائيل ـ تغيّر الديمغرافيا واللغة والهوية والدين، اقتلعت الإنسان من الأرض وأوجدت المدن وشقّت الطرقات وبنت الجدران والأسلاك العازلة، أقنعت نصف الكرة الأرضية بأنّ الجزائر حقّ فرنسي، واقتنعت بأنّ الجزائريين استسلموا لقدر القوة، لكنها لم تقاوم قوة الحق سبع سنوات فقط، ورحلت بالبواخر نفسها التي جاءت بها قبل 132 سنة. كذلك سيرحل سارق الأرض والتاريخ من فلسطين.