يطرح تصاعد التهديدات الإيرانية في الملف النووي خلال الفترة الراهنة، تساؤلات عن الدوافع التي تقف خلفها والأهداف التي تبغي طهران تحقيقها، ولا سيما بعد التلويح للمرة الأولى بتغيير العقيدة النووية الإيرانية. فتزامناً مع استمرار خفض تعهداتها النووية، وتنفيذ المرحلة الرابعة من ذلك اعتباراً من الخميس الماضي، التي اتخذت فيها طهران خطوة كبيرة بتفعيل مفاعل "فوردو"، وفيما لا تلمس البلاد بعد آثاراً لهذه السياسة في اختراق المواقف الأوروبية، باتت طهران تصعّد لهجتها ومواقفها، لتصل إلى التهديد أول من أمس السبت، وبعد يومين من تدشين المرحلة، بإعادة النظر في عقيدتها النووية إذا تجاوزت أوروبا "خطوطها الحمراء"، مع التشديد على أنّ انهيار الاتفاق النووي سيكون تحصيلاً حاصلاً "قريباً"، كمحطة نهائية لتقليص التعهدات المتواصل، ما دامت "المماطلة" الأوروبية مستمرة، إذ لا يبقى تعهد يوقَف تنفيذه في نهاية المطاف، بحسب مساعد وزير الخارجية الإيراني للشؤون السياسية، عباس عراقجي، في تصريحات له من موسكو في أثناء مشاركته في مؤتمر حظر الانتشار النووي.
وعلى صعيد متصل بالتصعيد النووي الإيراني في مواجهة السياسات الأميركية والأوروبية، أطلق رئيس الهيئة الإيرانية للطاقة الذرية، علي أكبر صالحي، أمس الأحد، عملية بناء مفاعل "بوشهر" الثاني من خلال صبّ الخرسانة بحضور ألكسندر لوكاشين، رئيس شركة "أتون ستروي إكسبورت" الروسية، التي تتولى تنفيذ المشروع. ومن المقرر أن تنتهي عملية بناء المفاعل الثاني بعد ستة أعوام في عام 2025. وبحسب التصريحات الإيرانية، ستبدأ أيضاً في وقت قريب عملية بناء المفاعل الثالث.
أما بالنسبة إلى الخطوط الحمراء التي حذر عراقجي من تجاوزها، فهي بحسب قوله، تفعيل أوروبا آلية فضّ النزاع (Snapback) بالاتفاق النووي، التي ستعيد الملف النووي الإيراني إلى مجلس الأمن الدولي. ومن شأن الخطوة إعادة العقوبات والقرارات الأممية ضد إيران وإدراجها مجدداً تحت الفصل السابع لميثاق الأمم المتحدة، وهي إجراءات طاولت طهران قبل أن ترفع بموجب الاتفاق النووي المبرم عام 2015 والقرار رقم 2231 لمجلس الأمن، المكمل للاتفاق.
في ما يتعلّق بموضوع تغيير العقيدة النووية، لم يوضح عراقجي طبيعتها المستقبلية إذا ما جرى تغييرها، لكن في ضوء تأكيده أن ذلك لا يعني التوجّه نحو صناعة القنبلة النووية، وأن هذا الأمر سيبقى التزاماً إيرانياً للأبد، فمن الواضح أنه يقصد إنهاء العقيدة المبنية على الاتفاق النووي، الذي أخضع البرنامج النووي الإيراني لرقابة أممية غير مسبوقة، توصف بأنها الأشد صرامة حتى الآن.
وللتدليل على ذلك، قال عراقجي إنه "إذا كانت مكافأة إيران بعد كل هذا التعاون والتعامل مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، إعادتها إلى الفصل السابع، فذلك يعني أن عقيدتنا النووية كانت خاطئة، وأنه يجب أن نعيد النظر فيها". وبالتالي، المقصود إنهاء التعاون مع الوكالة، بما يُخرج البرنامج النووي الإيراني من الرقابة المشددة وأيضاً الخروج من معاهدة حظر الانتشار النووي (NPT) والانسحاب من الاتفاق النووي.
أما عن الدوافع، فيبدو للوهلة الأولى أنّ هذه التهديدات تدبير احترازي رادع لمنع الأطراف الأوروبية من التوجّه نحو خيار تفعيل آلية فضّ النزاع، خصوصاً أنّ أوروبا لم تتخذ بعد قراراً للرد على الخطوة الإيرانية الرابعة، بحسب تصريح للمستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، الخميس الماضي. علماً بأنّ هذا الخيار مطروح منذ فترة، إذ سبق أن هددت الترويكا الأوروبية (ألمانيا وفرنسا وبريطانيا) بأنها قد تلجأ إليه، إذا واصلت طهران سياسة خفض التزاماتها النووية، بغضّ النظر عن أن الأخيرة من جهتها، أكدت مرات عديدة أن ذلك أمر غير شرعي ولا يوجد مبرر له، فهذه السياسة جاءت رداً على انتهاك الاتفاق النووي من قبل الولايات المتحدة وعدم وفاء بقية الأطراف الشريكة في الاتفاق بتعهداتها، ما يسقط خيار تفعيل آلية فضّ النزاع من وجهة النظر الإيرانية.
اقــرأ أيضاً
أما الدافع الثاني، وخصوصاً عند الحديث عن مواصلة تقليص التعهدات النووية حتى لا يبقى أي تعهد، ما يعني انهيار الاتفاق النووي فعلاً، فهو لإخافة الأوروبيين من أجل حثّهم على اتخاذ خطوات "جادة" لإنقاذ ما بقي من الاتفاق قبل فوات الأوان. وهو دافع يكون حاضراً أيضاً في تصعيد إيران خطواتها النووية، بعدما شعرت بأن خطواتها السابقة "الصغيرة" لم تُحدث أي اختراق عملي يُذكَر في السياسة الأوروبية تجاه الاتفاق النووي، ما عزاه البعض في إيران إلى عدم خطورة تلك الخطوات. الأمر الذي على ما يبدو دفع السلطات الإيرانية نحو خطوات أكثر حساسية، مثلما فعلته خلال تنفيذ المرحلة الرابعة، عندما فعّلت مفاعل "فوردو" الذي ينظر إليه الغرب بحساسية بالغة لطبيعة نشاطه الحساس في مجال تخصيب اليورانيوم عند مستويات عالية، وموقعه الجغرافي المحصّن في عمق منطقة جبلية ضد أي هجوم جوي محتمل لتدميره.
يأتي ذلك في وقت باتت فيه الحكومة الإيرانية والتيار الداعم لها، أكثر إحباطاً ويأساً من أوروبا، وأصبحت في وضع محرج أمام التيار المحافظ والمؤسسات الخاضعة لسيطرته، الذي حسم موقفه منذ اليوم الأول بعد انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي في الثامن من مايو/أيار 2018، بالتشديد على أنّ أوروبا لن تفعل شيئاً.
إلا أنه بغضّ النظر عن هذه السجالات الداخلية حول الموقف من أوروبا وتطورات الاتفاق النووي، لكن ما يتخذ من قرارات في نهاية المطاف بشأن هذا الاتفاق، هو موقف الدولة ككل، التي من جهة تدعو إلى إنقاذ الاتفاق النووي لوجود قناعة على ما يبدو بأنه ما زال في مصلحة للبلاد، لسببين: الأول أن البديل مرعب وكارثي، يعيد عقارب الساعة إلى ما قبل توقيعه عام 2015، عندما كان هناك إجماع دولي ضد إيران، وذلك على الرغم من أن منافعه "الاقتصادية" باتت صفرية بفعل الانسحاب الأميركي منه وما تبعه من عقوبات "قاسية". وثانيهما أنّ هناك أيضاً منافع غير اقتصادية للاتفاق، منها ما لم يحن وقت الاستفادة منها إيرانياً بعد، مثل الحظر المفروض على شراء طهران الأسلحة من الخارج، الذي سينتهي بموجب الاتفاق النووي في أكتوبر/تشرين الأول 2020. وبالتالي، فإنّ طهران في بالها أيضاً اغتنام هذه الفرصة لشراء أسلحة من الصين وروسيا ودول أخرى لا تمانع في تزويدها بها، ما دام ليس هناك حظر أممي على ذلك.
من جهة أخرى، تواصل إيران تقليص التعهدات، في خطوة تبدو مناقضة للدعوة إلى إنقاذ الصفقة النووية وما تبتغيه طهران من أهداف من وراء ذلك، إلا أنها تراها في الوقت نفسه "اضطرارية" في مواجهة السياسات الأميركية والأوروبية، وتصبّ من وجهة نظرها في اتجاه الحفاظ على الاتفاق. وعلى الأرجح، تريد إيران تحقيق هدفين من خلال الإيقاف التدريجي لتعهداتها النووية: الأول هدف "مرحلي"، يتمثل بممارسة الضغط على الجانب الأوروبي لتنفيذ "تعهداته الاقتصادية"، بما يمكّنها من مواجهة تداعيات العقوبات الأميركية، خصوصاً في مواجهة حظر الصادرات النفطية والمعاملات المصرفية والمالية.
والهدف الثاني إذا لم يتحقق الأول، "استراتيجي"، فطهران تعلم جيداً أنّ هذا الطريق الذي باتت تسلكه ستكون نهايته انهيار الاتفاق النووي، إلا إذا نفذت أوروبا مطالبها الاقتصادية، وهذا غير وارد حتى اليوم. فالهدف الاستراتيجي لها، استرجاع أوراق القوة في الملف النووي وإعادة الأوضاع إلى ما قبل يوليو/تموز 2015 لتحسين شروط التفاوض من جهة، وإبعاد ما تعتبره "خطوطها الحمراء"، أي البرنامج الصاروخي والنفوذ الإقليمي من طاولة التفاوض من جهة أخرى، من خلال إيجاد البديل للتفاوض، وهو البرنامج النووي، الذي ثبت أن إيران لا تمانع في تقديم تنازلات بشأنه.
لكن استرجاع تلك الأوراق لا يمكن مرة واحدة، لأنها تشكل صدمة كبيرة وتضر بإيران ولا تنفعها، وبالتالي تحاول الحصول عليها بالتدرج، كي لا تُحمّل مسؤولية انهيار الاتفاق النووي.
وعلى الرغم من التهويل الإعلامي والتهديدات المتصاعدة، إلا أن الخطوات النووية الإيرانية التي باتت تتخذ منحىً تصعيدياً، لم تتجاوز بعد الخطوط الحمراء الأوروبية والأميركية، مثل رفع التخصيب إلى مستويات كبيرة، أي عشرين في المائة، وما بعدها، أو زيادة عدد أجهزة الطرد المركزي إلى أكثر مما يسمح به الاتفاق النووي، أو إنهاء الرقابة الأممية على برنامجها النووي، الأمر الذي يعني أن "التصعيد النووي" الإيراني "مضبوط ومحدود" تحت سقف محدد، لم يقترب بعد من خطوات حساسة للغاية، ما سيقابله على الأغلب رد أوروبي مماثل، ليصبح مصير هذا المسار المعقّد مرتبطاً بالمباحثات المستمرة بين الطرفين في خلال المرحلة المقبلة، ونتائج لعبة الضغوط والضغوط المضادة بين طهران وواشنطن، واحتمالات عودة الطرفين إلى التفاوض من عدمه، وغيرها من العوامل.