وتأتي هذه الزيارة "لفتح أفق جديد في العلاقات بين الطرفين ودفعها إلى الأمام"، حسب ما ذكر بوتين، خلال قبوله أوراق اعتماد السفير التركي الجديد لموسكو أوميد ياردم، منتصف الشهر الحالي. واحتفى بوتين بياردم، وأشاد بـ "الحوارات العميقة التي جمعته مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مرات كثيرة". وأكد أنه "لن يكون مخطئاً إن اعتبر أن العلاقات بين الطرفين على خير ما يرام".
علماً أن الملفات الخلافية العالقة بين روسيا وتركيا كثيرة، ويأتي على رأسها الأزمة السورية، إذ تُعدّ موسكو إحدى أهم العقبات في وجه محاولات أنقرة لإسقاط النظام السوري، لدعمها نظام الرئيس السوري بشار الأسد. كما لم يتردد ممثلو الكرملين في استخدام حق النقض مراراً في مجلس الأمن لحماية النظام السوري، في الوقت الذي لم تتوقف فيه أنقرة عن محاولتها دفع الإدارة الأميركية لوضع النظام السوري على قائمة أهداف التحالف الدولي ضد تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، كشرط مسبق لفتح قاعدة إنجرليك الجوية للمشاركة في الضربات العسكرية ضد الأخير.
في غضون ذلك، عارضت أنقرة عبر أردوغان ورئيس حكومته أحمد داود أوغلو، بشدة محاولات موسكو، إحياء عملية جنيف عبر إدخال النظام السوري طرفاً في المفاوضات مع المعارضة، ما يمنح الشرعية للنظام السوري، برأيها.
وعلى الرغم من اعتبار الأزمة السورية، المصدر الأهم للتوتر بين الطرفين، لكنها ليست الوحيدة، فما زالت تركيا غير مرتاحة للتطورات التي حصلت في أوكرانيا، وضمّ روسيا لشبه جزيرة القرم، التي يعتبر التتار (ينتمون إلى القومية التركية) جزءا مهما من سكانها، والذين يتعرضون لتهميش مستمر، بما يشابه سياسات روسيا القيصرية بعد انتزاعها القرم من يد العثمانيين، ومن ثم سياسات التهجير التي اتخذت بحقهم من الاتحاد السوفييتي. دفع كل ذلك أنقرة لعدم الاعتراف بالضمّ الروسي للقرم، مؤكدة على وحدة الأراضي الأوكرانية، لكنها ما زالت تتجنّب المشاركة في العقوبات الغربية المفروضة على موسكو.
ملف آخر يُشكّل نقطة خلافية بين الطرفين: قبرص. فقد أثار سعي القبارصة اليونانيين استغلال احتياطيات الغاز البحرية الضخمة، من دون مشاركة القبارصة الأتراك، أنقرة ودفعها لإرسال سفينة مسح للمياه الإقليمية لقبرص التركية.
في هذا الملف، تساند روسيا القبارصة اليونانيين، لا بل إن بوتين كان قد أعطى لرئيس قبرص اليونانية نيكوس أناستاسيادس، ضمانات في هذا الشأن خلال اجتماع عُقد بينهما في إيطاليا في أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
إذ أصدر المتحدث باسم الحكومة القبرصية اليونانية نيكوس كريستودوليتس، عقب اجتماع الرئيسين، بياناً أشار فيه إلى أن "بوتين أكد على الموقف الروسي المساند لقبرص من حيث المبدأ، فيما يتعلق بحلّ المشكلة القبرصية، وكذلك على حقها في استغلال الموارد الطبيعية داخل المنطقة الاقتصادية الخاصة بها، واصفاً أي انتهاك لسيادة حقوق قبرص بأنه أمر غير مقبول".
ومع ذلك، أصرّ بوتين على فتح "أفق جديد" في العلاقة، ويبدو بأنه محقّ تماماً، فروسيا هي الشريك التجاري الثاني لتركيا بعد ألمانيا، كما تعتبر أنقرة الشريك الأول لموسكو في قطاع الخدمات، حسب إحصاءات البنك المركزي الروسي، وتُعدّ تركيا أيضاً المحطة الأهم لملايين السياح الروس. ولا تتوقف الأمور عند هذا الحدّ، فللدولتين مشاريع مشتركة في مجال الطاقة النووية.
وتبقى الطاقة إحدى أهم البنود الاقتصادية بين الجانبين، ففي ظل العقوبات المفروضة على إيران، يزداد اعتماد تركيا على الغاز الروسي، حتى أن مجموعة من الشركات الخاصة التركية، وقّعت عقداً لـ30 عاماً مع عملاق الغاز الروسي، "غازبروم". كما اشترى مصرف "سبيربانك" الروسي، أخيراً مصرف "دينيز" التركي بصفقة وصلت إلى 4 مليارات دولار.
ولفت السفير التركي السابق لروسيا، وعضو مجلس إدارة مجلس الصناعيين ورجال الأعمال الأتراك "توسياد"، وهو تكتل من كبار الشركات التركية، فولكان فورال، إلى أن "العامل الاقتصادي هو المفتاح في العلاقات الروسية التركية". وأكد أن "تركيا تعتمد على الغاز الروسي، وتعتمد على السوق الروسية في التصدير، كما أن الشركات التركية تعمل على الكثير من المشاريع في روسيا. يدفع كل هذا إلى وضع الخلافات السياسية جانباً".
تزداد الرغبة الروسية في الحفاظ على علاقات جيدة مع تركيا، بعد تردي علاقاتها أخيراً مع الغرب إثر الأزمة الأوكرانية، ويشير فورال إلى أن "روسيا تعتبر نفسها في حالة حرب مع الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، وتحاول تقسيم أوروبا إلى قسمين، وترى نفسها قوة رائدة في أوروبا الشرقية، وتريد السيطرة عليه والحفاظ على الاستقرار هناك على أساس رؤية رأسمالية، لكن تسلطية". وأضاف "تريد موسكو رؤية أنقرة تبتعد عن أوروبا الغربية والاتجاه شرقاً". ولم يفت فورال تحذير أنقرة من طموحات بوتين "القيصرية" في العودة كقوة عظمى، والتي قد تضر بالمصالح التركية في وقت لاحق. وأصرّ على أهمية الإبقاء على حيوية العلاقة مع أوروبا الغربية، قائلاُ "على تركيا أن تخطو بحذر شديد بسبب هذه الطموحات، لذلك ستبقى علاقاتها مع أوروبا الغربية بالغة الأهمية بسبب ذلك".