بدأت مدينة منبج شمال سورية، والتي تقع غرب نهر الفرات، تتحول إلى نقطة صراع استراتيجية بين الدول المتدخلة بالشأن السوري، وذلك بعد استكمال تركيا، من خلال عملية "غصن الزيتون"، السيطرة على منطقة عفرين، وبعد التصريحات الأميركية بالانسحاب من سورية بالتزامن مع إرسال التحالف الدولي قوات إلى مدينة منبج، ودخول فرنسا على الخط من خلال إرسال قوات إضافية لها إلى المدينة، وقيام التحالف الدولي ببناء قاعدة عسكرية متقدمة في شمالها القريب من الحدود التركية.
فقد فتحت مفاعيل تصريحات الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بشأن خروج قواته من سورية الباب أمام جملة من التعقيدات في المنطقة، بدأت من منطقة منبج. فحلفاء الولايات المتحدة الغربيون أبدوا استعدادهم لملء الفراغ الأميركي، فيما طرحت تركيا على واشنطن إدارة أميركية تركية مشتركة للمدينة، شرط خروج "قوات سورية الديمقراطية" (قسد) منها، هذا في الوقت الذي رأت فيه إيران أن خروج الولايات المتحدة من سورية هو انتصار لمحور "الممانعة"، وبالتالي فهي تضع نصب عينيها ملء الفراغ من خلال قوات النظام والمليشيات الموالية لها، على الأقل في بعض المناطق التي تسيطر عليها "قوات سورية الديمقراطية" بدعم أميركي.
وتشير بعض التحليلات إلى أن تصريحات ترامب ما هي إلا عملية ابتزاز لدول الخليج، خصوصاً السعودية، من أجل دفع فاتورة الوجود الأميركي في سورية. وكان الرئيس الأميركي قال، الثلاثاء الماضي، إن بلاده ستتخذ قراراً سريعاً بسحب قواتها من سورية، مضيفاً أن هناك دولاً تريد من الولايات المتحدة أن تبقى في سورية، ملمحاً إلى السعودية. وتابع "عليهم في هذه الحالة أن يدفعوا مقابل ذلك". وأشار إلى أن بلاده استثمرت سبعة تريليونات دولار في الشرق الأوسط "ولم نر شيئاً سوى الموت والدمار". واختتم كلامه بالقول إن مهمة بلاده في سورية ليست مخصصة لتهدئة الشرق الأوسط بل لمحاربة الإرهاب. وقال وزير الدفاع الأميركي، جيم ماتيس، أمس السبت، إن العسكريين الأميركيين يتحدثون إلى شركائهم الأكراد وغيرهم في سورية لتسوية القضايا المتعلقة بدعم واشنطن لهم بعد انسحاب الولايات المتحدة من البلد. ورداً على سؤال عما إذا كان الجيش الأميركي ملتزم بدعم المقاتلين الأكراد، قال ماتيس "نجري مشاورات مع حلفائنا وشركائنا الآن، وسنعمل على ذلك".
وتركيا، التي استكملت السيطرة على منطقة عفرين، استفزتها التعزيزات الأميركية والتدخل الفرنسي في مدينة منبج، الهدف التالي ضمن عمليتها في القضاء على مليشيا "حزب الاتحاد الديمقراطي"، وذراعه العسكرية "وحدات حماية الشعب" الكردية، الذي تصنفه كتنظيم إرهابي، وهي طرحت على الأميركيين، من خلال لجنة تنسيق مشتركة أميركية تركية، أن يتم إدارة منبج بإشراف تركي أميركي بعد إخراج "قوات سورية الديمقراطية" منها، لتكون هذه المدينة نموذجاً يمكن أن يطبق في باقي مناطق سيطرة مليشيات "وحدات حماية الشعب" في شمال سورية، والتي تشكل، بحسب أنقرة، تهديداً للأمن القومي التركي.
ويبدو أن واشنطن تحاول من التهديد بالانسحاب من سورية تحقيق هدفين رئيسيين، الأول ابتزاز حلفائها الخليجيين لدفع فاتورة بقائها في سورية، إذ تبدو السعودية من أكثر المتضررين من الانسحاب الأميركي من سورية، خصوصاً أن من سيملأ الفراغ قوى في المحور الآخر، تركيا وإيران، الأمر الذي قد يدفع السعودية للخضوع لابتزاز واشنطن، ودفع تكلفة الوجود الأميركي في سورية ومنع أي تفاهم مع تركيا. فيما يبدو أن الهدف الثاني هو محاولة كسر الحلف الروسي الإيراني التركي، وخلق صراعات بين أطراف هذا الحلف لملء الفراغ في المنطقة. إلا أن تركيا، التي تسعى للتنسيق مع الأميركيين بشأن وضع خطة لسيطرة مشتركة على مناطق سيطرة "الوحدات" الكردية شمال سورية، يبدو أنها تحتفظ بخطة بديلة تستطيع المساومة عليها، من خلال التنسيق مع الروس، خصوصاً إذا حاولت بعض الدول الغربية، كفرنسا وبريطانيا، الدخول على خط حماية "الوحدات" الكردية. فتركيا التي يهمها، بالدرجة الأولى، القضاء على مشروع "حزب الاتحاد الديمقراطي" تمتلك عدداً من الخيارات في حال فشل تنسيقها مع الأميركيين ودخول فرنسا وبريطانيا بشكل أكبر على خط حماية المليشيا الكردية، منها ضرب مقرات "الوحدات" الكردية من داخل الأراضي التركية والقيام بعمليات أمنية لاغتيال قيادات منهم، بالإضافة إلى التنسيق مع الروس لتقاسم مناطق نفوذ تلك "الوحدات" بينها وبين قوات النظام، المدعومة روسياً.
ويبدو من تصريحات القادة الأتراك أن أنقرة لن تتهاون في موضوع منبج، وستعمل على طرد المليشيا الكردية منها بكل الطرق المتاحة. فقد قال رئيس الوزراء التركي، بن علي يلدريم، إنه "ما دام هناك تهديدات إرهابية، فلن ينسحبوا من المنطقة"، موضحاً أن "مدينة منبج أصبحت محطَّ أنظار العديد من الدول حالياً. إنهم يأتون إلى هذه المنطقة ويتمركزون فيها من دون أن يسألوا أنفسهم من هم أصحابها الأصليون والأساسيون، ونحن قلقون، ونريد منهم أن يتركوا أهالي تلك المنطقة وشأنهم لكي يقرروا مصيرهم بأنفسهم". وأكد يلدريم أنه "ما دام هناك تهديد إرهابي ضد تركيا، سواء من منبج، أو من شرق أو غرب الفرات، فلن يتراجعوا، وسيستمرون في مواجهة الإرهاب".
وكانت استقالة وزير الخارجية الأميركي، ريكس تيلرسون، أوقفت التنسيق الأميركي التركي، إلى حين تسلم وزير الخارجية الجديد، مايك بومبيو، مهامه، وهو ما أكدته مصادر في وزارة الخارجية التركية، أخيراً، إذ أشارت إلى أن اجتماع "مجموعة العمل التركية الأميركية" بشأن الأوضاع في منبج السورية، معلّق حتى استلام بومبيو مهامه رسمياً. وكان دخول الفرنسيين هو الأكثر استفزازاً للجانب التركي، خصوصاً طرح الفرنسيين أنفسهم كوسطاء بين الأتراك و"وحدات حماية الشعب"، الذين تصنفهم أنقرة إرهابيين، الأمر الذي وصفته تركيا بأنه محاولة فرنسية لدعم الإرهاب. وما زاد الطين بلة هو إرسال الفرنسيين قوات إلى المنطقة، وهو الأمر الذي يبدو أنه لم يكن ضمن الحسابات التركية. وفي المقابل، يبدو أن إيران تراقب عن كثب التطورات في الموقف الأميركي حيال سورية، وهي ترى في أي تقليص للقوات الأميركية خطوة إيجابية على طريق استكمال مشروعها بتأمين خط طهران - بيروت.
ويبقى سكان مدينة منبج، ذات الأغلبية العربية، هم من يدفع ثمن الصراعات الدولية، إذ دعمت الولايات المتحدة في العام 2016 مليشيا "قوات سورية الديمقراطية" للسيطرة على المدينة، وأمنت غطاءً لبسط سيطرة "حزب الاتحاد الديمقراطي" على جميع النواحي فيها، عبر محاولته تغيير ثقافة المنطقة تعليمياً، وإجراء تغيير ديمغرافي فيها بهدف منحها صبغة كردية، وهو الأمر الذي لم ينجح فيه حتى الآن رغم كل عمليات التهجير التي قام بها ورغم إدخال مناهج جديدة في التعليم بعد سيطرته، بشكل مطلق، على كل مفاصل الحياة في المدينة، التي تنتظر ما ستؤول إليه التفاهمات الدولية أو الصراعات التي قد يدفع ثمنها الأهالي. وتقع مدينة منبج في شمال شرق محافظة حلب في شمال سورية، على بعد 30 كيلومتراً غرب نهر الفرات و80 كيلومتراً من مدينة حلب، ويبلغ عدد سكانها نحو 100 ألف نسمة، غالبيتهم من العرب بالإضافة إلى الأكراد والشركس بنسب تكاد لا تذكر.