يتنامى الحديث بشكل لافت في الفترة الأخيرة حول اتفاق هدنة محتمل بين حركة "حماس" ودولة الاحتلال. وتحدّثت وسائل إعلام إسرائيلية أخيراً عن اتصالات تقوم بها أطراف إقليمية ودولية بهدف التوصّل إلى اتفاق هدنة طويل الأمد بين الحركة وإسرائيل، يضمن التزام الأخيرة بالسماح بإحداث تحوّل جذري على الواقع الاقتصادي والإنساني في قطاع غزة، مقابل تعهّد حركة "حماس" بعدم السماح باستهداف الأراضي المحتلة انطلاقاً من قطاع غزة، إلى جانب وقف مشاريع تدشين الأنفاق الهجومية. وعلى الرغم من أن بعض التسريبات قد تمّ تكذيبها من قبل "حماس"، خصوصاً في ما يتعلّق بمفاوضات لتبادل أسرى مع دولة الاحتلال، وعلى الرغم من أن الكلام لم يتوقّف عن دراسة "حماس" وإسرائيل حالياً مسودات لاتفاق هدنة مقترحة، إلا أنّ إنجاز هذا الاتفاق في النهاية يتوقّف على مدى قدرة المحفزات التي تدفع الطرفين للتوصّل إلى الاتفاق وتجاوز المعيقات الموضوعية التي تحول دون ذلك.
معيقات الهدنة
من المعيقات الرئيسة التي تحول دون التوصّل إلى الهدنة، إصرار دوائر وازنة ضمن السلطات الإسرائيلية على المطالبة بتجريد قطاع غزة من السلاح بالكامل، إذ يعدّ وزير الأمن، أفيغدور ليبرمان، أكثر المتشبثين بهذا الشرط. ويحذر المصرّون على نزع سلاح المقاومة من استنساخ نموذج "حزب الله" اللبناني في غزة، في حال لم يتم الوفاء بهذا الشرط اليوم. ومن الواضح أن حركة "حماس" لا يمكنها القبول بمثل هذا الشرط، لا سيّما في ظلّ إدراكها الدور الذي يلعبه "حراك العودة" في تحسين قدرتها على المناورة السياسية.
إلى جانب ذلك، فإنّ هناك إجماعاً داخل دولة الاحتلال على الربط بين اتفاق الهدنة وإنهاء ملف الجنود الإسرائيليين الأسرى لدى "حماس". ومع أن الحركة لا يوجد لديها اعتراض على ذلك من الناحية المبدئية، إلا أنّ ما يقلّص من حماسها لهذا الربط حقيقة أنّ ما يصدر عن القيادات الإسرائيلية يوحي بأن تل أبيب غير معنية بدفع ثمن مناسب مقابل إنهاء هذا الملف. في الوقت ذاته، فإنّ الاعتبارات الداخلية تلعب دوراً مهماً في فرملة توجه القيادة الإسرائيلية نحو اتفاق الهدنة، إذ يشير كثير من المراقبين في إسرائيل إلى أن رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، غير معني بأن يظهر كمن يتوصّل إلى تسويات مع منظمة "إرهابية"، في الوقت الذي يحرّض فيه العالم على "محاربة الإرهاب".
محفزات الهدنة
هناك محفزات عدة تحثّ إسرائيل على التوصّل إلى اتفاق هدنة، على رأسها الحاجة إلى إنهاء "حراك العودة"، الذي فرض تحديات أمنية وسياسية، وأسهم في المسّ بمكانة تل أبيب الدولية، إلى جانب أنّ السماح بتواصل الحراك يمكن أن يؤدي إلى اندلاع مواجهة شاملة مع "حماس"، قد تفضي إلى توريط إسرائيل في الوحل الغزّي. فشن حرب جديدة على القطاع سيسمح لحماس بمغادرة الحكم، وهو ما سيفضي إلى سيادة حالة من الفوضى أو ما تسميه الدوائر الأمنية الإسرائيلية "صوملة" القطاع، ما سيجبر إسرائيل على إعادة احتلال غزة. مع العلم أن هناك إجماعاً داخل دولة الاحتلال على ضرورة تجنّب أي مسار يفضي إلى إعادة احتلال القطاع، بسبب تبعاته الأمنية والاقتصادية والسياسية. وتبدو إسرائيل معنية بالإبقاء على حكم الأمر الواقع الذي تديره "حماس" في غزة، كعنوان سلطوي، من أجل جباية ثمن من الحركة لإجبارها على ضبط الأمور في القطاع، إلى جانب أن العمليات العسكرية التي تشنها تل أبيب تهدف أيضاً إلى قضم قدرات "حماس" العسكرية من خلال التذرّع بالردّ على هذا العمل أو ذاك.
في الوقت ذاته، فإنّ كل المؤشرات تدلّ على أن إسرائيل معنية بالتفرغ لمواجهة التحديات على الجبهة الشمالية، على ضوء توجه صنّاع القرار في تل أبيب لاستغلال نافذة الفرص الحالية من أجل القضاء على الوجود الإيراني هناك، وهذا ما يغري بالتوصّل إلى اتفاق هدنة مع "حماس" يسمح بمواجهة تبعات التصعيد في الشمال. وتدرك إسرائيل رغبة الولايات المتحدة في التهدئة من أجل توفير بيئة تسمح بطرح "صفقة القرن"، التي سيتم الإعلان عنها قريباً، فضلاً عن أنّ استتباب الهدوء على جبهة "إسرائيل" ــ غزة، يوفّر بيئة إقليمية تسمح بنجاح تحركات الرئيس الأميركي دونالد ترامب ضد إيران، في أعقاب انسحابه من الاتفاق النووي. مع العلم أن خطوات ترامب الأخيرة تمثّل أيضاً مصلحة استراتيجية لدولة الاحتلال.
وتسهم الهدنة في تكريس الفصل بين قطاع غزة والضفة الغربية، لأن هذا يتطابق مع المنطلقات الأيديولوجية لليمين الحاكم في تل أبيب. إلى جانب ذلك، فإنّ حالة انعدام اليقين التي تسود الضفة الغربية في أعقاب التقارير التي تتحدّث عن تدهور الحالة الصحية لرئيس السلطة، محمود عباس، تزيد من فرص انفجار الأوضاع الأمنية في الضفة، بشكل يفرض على تل أبيب ضمان الدفع نحو تهدئة الأوضاع في القطاع.
وعلى الرغم من أنّ محفزات الهدنة تبدو أقوى من معيقاتها، إلا أنّ التجربة قد دلّت على أن إسرائيل بإمكانها أن تتوصّل إلى اتفاق هدنة مع "حماس"، لكن احترامها له يتوقّف على مدى تقديرها لدوره في خدمة مصالحها. وما يمنح تل أبيب هامش مرونة كبيرة في التعاطي مع اتفاقات التهدئة والهدنة ووقف إطلاق النار مع "حماس"، حقيقة أنّ مصر، التي تلعب الدور الرئيس في التوسط بين الجانبين، لا تبدي تصميماً على إلزام تل أبيب باحترام ما تمّ الاتفاق عليه. فقد رعى النظام المصري صفقة لتبادل الأسرى عام 2011، أطلقت إسرائيل بموجبها المئات من الأسرى الفلسطينيين مقابل الجندي جلعاد شاليط، لكنّ هذا النظام لم يحرّك ساكناً عندما قامت إسرائيل بإعادة اعتقال معظم الأسرى الذين أطلق سراحهم في الضفة الغربية.