على بُعد أشهر من موعد الحسم في مايو/أيار المقبل، لا يبدو أحد قادراً على التكهن بنتائج الانتخابات الرئاسية في فرنسا، التي تبدو هذه المرة مفتوحة على كل التوقعات بخلاف الاستحقاق السابق عام 2012 الذي كانت فيه هزيمة الرئيس السابق نيكولا ساركوزي نهاية حتمية وفوز المرشح الاشتراكي نتيجة متوقعة ومنطقية. ويعود السبب الرئيسي لهذه الضبابية التي تلف الاقتراع الرئاسي الحالي لكون الانتخابات باتت محكومة بثلاثة عوامل حاسمة وغير مسبوقة. يكمن العامل الأول في قرار الرئيس المنتهية ولايته فرانسوا هولاند بعدم الترشح لولاية ثانية. ذلك أن كل الرؤساء الذين سبقوه منذ تأسيس الجمهورية الخامسة بعد الحرب العالمية الثانية تقدّموا لولاية رئاسية ثانية وخاضوا الانتخابات الرئاسية. وكان أولهم شارل ديغول عام 1965 ثم فاليري جيسكار ديستان عام 1981 وفرانسوا ميتران عام 1988 وجاك شيراك عام 2002 وأخيراً ساركوزي عام 2012. وكان كل واحد من هؤلاء الرؤساء راغباً في مواصلة مسيرته السياسية ومقتنعاً بكونه المرشح الأفضل لقيادة البلاد.
ويحرم تخلي هولاند عن الترشح لولاية ثانية، المعركة الانتخابية الرئاسية من واحدة من أهم مقوماتها الأساسية المتمثلة في الدفاع عن حصيلة الحكم من قِبل الرئيس المنتهية ولايته وخضوع هذا الأخير لما يشبه المحاكمة السياسية من خصومه خلال الحملة الرئاسية وهذا ما يعطي السباق الرئاسي نكهة خاصة. وبغياب هولاند عن السباق، فلن يجد المرشحون المنافسون الهدف المثالي الذي يصوبون نحوه انتقاداتهم النارية لحصيلة الولاية الاشتراكية، وستفتقد المناظرات التلفزيونية المقبلة لاعباً أساسياً كان دوما يخضع لما يشبه الاستفتاء الشعبي حول انجازاته وإخفاقاته، وغالباً ما يدفع ثمن ذلك مثلما حدث لديستان عام 1981 وساركوزي عام 2012.
وحتى لو غامر المرشح الاشتراكي الذي سيفوز في الانتخابات التمهيدية للحزب الاشتراكي نهاية الشهر الحالي، وقد يكون مثلاً رئيس الوزراء السابق مانويل فالس، وتبنّى الحصيلة الاشتراكية للحكم، فسيكون الأمر مختلفا تماماً، لكون السياسة الحكومية خلال الولاية الاشتراكية الحالية تُقرَّر بالأساس في كواليس القصر الرئاسي، والجميع يعي أن هولاند هو المتحكّم الأول في خيوطها. أما وزير الاقتصاد السابق إيمانويل ماكرون الذي كان مقرباً من هولاند، فقد حرص من خلال استقالته من الحكومة ومسلسل ترشحه للرئاسة من خارج السرب الاشتراكي، على التنصّل من كل مسؤولية عن الحصيلة الاشتراكية. وإلى جانب ماكرون يحرص مرشحون آخرون في الانتخابات التمهيدية للحزب الاشتراكي على اتّباع استراتيجية الهجوم على حصيلة هولاند الرئاسية، بل إنهم تحوّلوا إلى ما يشبه "الأيتام" بعد أن حرمهم هولاند من فرصة الهجوم عليه بتخليه النهائي عن الترشح للرئاسيات.
ويكمن العامل الثاني الذي يميز الاقتراع الرئاسي الفرنسي، في التشرذم الذي يعاني منه اليسار وتقدّمه لهذه الانتخابات في هيئة جسم متعدد الرؤوس ومُهدد بالتحلل السريع. وبخلاف الانتخابات التمهيدية لليمين التي تمخّضت عنها مفاجأة فوز فرنسوا فيون وخلق إجماع بين المتنافسين السابقين حوله لخوض الانتخابات الرئاسية بشكل فعال ومتحد، تبدو الانتخابات التمهيدية الاشتراكية كصراع دموي بين التيارين الإصلاحي واليساري، وهو الصراع الذي ينخر معسكر الاشتراكيين منذ السبعينيات. فمن جهة هناك مانويل فالس وفانسون بيون اللذان يدافعان بدرجات متفاوتة عن حصيلة الولاية الاشتراكية الحالية وعن التوجّه الليبرالي الإصلاحي. ثم هناك بينوا هامون وأرنو مونتبورغ اللذان يمثلان المكوّن اليساري ويبنيان استراتيجيتهما على الهجوم على الأداء الحكومي وحصيلة هولاند الرئاسية. ومهما كانت نتيجة الانتخابات التمهيدية وهوية الفائز فيها، يراهن غالبية المحللين السياسيين الفرنسيين وفقاً لمنطق التداول السياسي، على أن المرشح الاشتراكي قد يجد نفسه يقوم بدور "الكومبارس" في سباق قد يكون محصوراً بين مرشح اليمين التقليدي فرانسوا فيون ومرشحة اليمين المتطرف مارين لوبان. وما يزيد من ترجيح كفة هذا الرهان، هو أن اليسار الفرنسي عاجز عن الالتفاف حول مرشح واحد يخلق إجماعاً مبدئياً بين مختلف مكونات اليسار الفرنسي في مواجهة اليمين التقليدي واليمين المتطرف. ولعل الخطر الأكبر الذي سيواجه المرشح الاشتراكي سيكون جان لوك ميلانشون مرشح اليسار الراديكالي، الذي يخوض الحملة الرئاسية منذ شهور عدة وتمنحه استطلاعات الرأي معدل 10 في المائة من الأصوات، وهي نسبة جيدة لكنها لا تستطيع إيصاله إلى الدور الثاني من الاقتراع الرئاسي. كما أن ماكرون الذي يخوض المعركة الرئاسية من دون سند حزبي بات يحظى بشعبية كبيرة وفق استطلاعات الرأي التي تضعه في خانة المرشح الثالث الأوفر حظاً بعد لوبان وفيون، وسيساهم حتماً في جذب أصوات عدد مهم من الناخبين الاشتراكيين الساخطين على أداء الحكومة والمناهضين في الوقت نفسه للتوجّه اليساري داخل الاشتراكي.
ويكمن جديد اليمين المتطرف في الاقتراع المقبل، في كون لوبان تخوضه هذه المرة، ليس من أجل القيام بدور الحكم بين اليمين واليسار وعرقلة المنافسة بينهما، بل لانتزاع ورقة الرئاسة. وهذا ما خططت له رئيسة الحزب منذ الاقتراع الرئاسي السابق وعززته بالنتائج الانتخابية الجيدة في الاستحقاقات البلدية والنيابية والإقليمية السابقة. وتصب الظروف الأوروبية والدولية ومستجداتها لصالح لوبان وأفكارها القومية المتطرفة، خصوصاً خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي عبر استفتاء شعبي تنادي بتنظيمه في فرنسا في حال فوزها بالرئاسة. أيضاً تعتبر لوبان الفوز المفاجئ لدونالد ترامب في الانتخابات الأميركية تعزيزاً لحظوظها في اختراق الاستحقاق الرئاسي، بعد أن بات الرأي العام الفرنسي يميل هو الآخر للخيارات الشعبوية والخطاب القومي المبني على مناهضة الهجرة والإسلام.