باتت خطة الإنعاش المقترحة من برلين وباريس، لاحتواء تأثيرات جائحة كورونا على دول جنوب القارة الأوروبية، سبباً جديداً لشروخ بين الأحزاب والدول والتحالفات القديمة. فالأوروبيون المنشغلون بالبحث عن طرق لمساعدة البلدان (الأوروبية) الأكثر تضرراً، يواجهون تحدياً يتعلق بكيفية حصول ذلك، إن كان عبر سياسة الإقراض أم منح مالية مباشرة. وهذا التحدي بدأ يُنتج تحالفات بين معسكر محافظ وليبرالي من جهة، ومعسكر يسار الوسط (الاجتماعي الديمقراطي) من جهة أخرى، على مستوى الحكومات وفي البرلمان الأوروبي. ويُعزز هذا التحدي الجديد في القارة الأوروبية معضلة توسّع معسكر المؤمنين بغياب التضامن بين دول التكتل الأوروبي، وهو ما يعترف به بعض السياسيين والمراقبين منذ بداية الجائحة.
ولاقى اقتراح المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بمنح مساعدات مالية إلى إيطاليا وإسبانيا، "فيتو" من أربع من دول القارة العجوز. فالسويد والدنمارك والنمسا وهولندا، وعلى الرغم من اختلاف معسكرات الأحزاب الحاكمة فيها، إلا أنها تتمسّك بصيغة الديون المستحقة كإجراء لمواجهة الأزمة. ويبدو واضحاً نشوء تحالف بين ما بات يطلق عليه (الدول) "الأربع المتقشفة" (السويد والدنمارك والنمسا وهولندا)، المعترضة على تخصيص منح مالية بمقدار نصف مليار يورو من الاتحاد للدول المتضررة.
واللافت أنّ حزبي يسار الوسط (الاجتماعي الديمقراطي) الحاكمين في كل من السويد والدنمارك، يتفقان في معارضتهما للمقترح مع مستشار النمسا المحافظ سباستيان كورتز ورئيس حكومة هولندا الليبرالي، مارك روت. وهو ما يثير جدلاً ومخاوف من تشققات في معسكرات الحكم، وفي كتل البرلمان الأوروبي.
فعلى سبيل المثال، إنّ توجهات كورتز، بمعارضته تقديم منح لدول الجنوب الأوروبي، تنبئ بتشقق في تحالفه الحاكم. فنائب المستشارية، وزعيم حزب "الخضر"، فيرنر كوغلر، يعارض سياسة كورتز المتشددة، وقد قال وفقاً لصحيفة "داي برس" النمساوية أخيراً، إنه "لا يجب اعتبار مساعدة الدول المتضررة ديوناً، بل من المفترض مساعدة إسبانيا وإيطاليا بمنح مالية، وهذا يساعد النمسا أيضاً". وبالنسبة لهذا السياسي المصنف يسارياً في فيينا، فإنّ سياسة الدعم "فيها مصلحة لبلدنا، إذ إنّ ضخّ المال للإيطاليين سيساهم في تحسّن أوضاع ولاية كارنتن الحدودية، والتي تتشابك مصالحها مع إيطاليا أكثر من تشابكها مع ولايات نمساوية أخرى". واتهم كوغلر المستشار كورتز بأنه "بات المتحدث الرسمي باسم الدول المتقشفة الأربع"، في إشارة إلى الدول التي تعارض سياسة المنح.
أزمة غياب سياسة تضامن واضحة تقتحم الآن البرلمان الأوروبي. فزميل كورتز من حزب "الشعب" المحافظ نفسه، أوثمار كاراس، والذي يشغل منصب نائب رئيس كتلة الأحزاب المحافظة في البرلمان الأوروبي، يرفض سياسات بلده والدول المعارضة لمساعدة دول الجنوب الأوروبي. وقد عبّر من خلال حسابه الرسمي على موقع "تويتر"، عن معارضة سياسة كورتز و"عصبة الأربع" باعتبارها سياسة "لا تواجه التحديات المستقبلية للاتحاد الأوروبي". وقال كاراس إنه "من دون سياسة مزيج صحي بين المنح والقروض، فإنّ الأمور لن تعمل بالشكل الصحيح".
في الكتلة الليبرالية في البرلمان الأوروبي، "كتلة تجديد أوروبا"، يبدو الخلاف عميقاً بشأن السياسة الواجب انتهاجها لمواجهة آثار جائحة كورونا. فبعد أقل من عام على تحالف هذه الكتلة مع كتلة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فإنّ رئيس الوزراء الهولندي، مارك روت، يذهب في اتجاه آخر مخالف لما تنشده باريس التي تشكّل الآن محوراً مع برلين للتعاطي مع آثار الأزمة. فروت انضم إلى "عصبة" الرافضين للمنحة المالية، ويقف عقبة بوجه ماكرون في المجموعة البرلمانية الأوروبية، على الرغم من أنّ الأخير يملك أغلبية فيها، فيما روت لديه الآن دعم تقشفي اسكندنافي-نمساوي، ومن بعض دول وسط وشرق أوروبا الحذرة بمواقفها، كما مواقف فيكتور أوربان المجري، الذي يعاني صداعاً مع مؤسسات أوروبا.
ولأنّ الأمور يجب أن تمرّ عبر المؤسسات الأوروبية، بما فيها البرلمان، ثمة ما يشبه فوضى في مواقف الكتل من المقترح الألماني-الفرنسي. فحتى داخل كتل الاجتماعيين الديمقراطيين، في كتلة يسار الوسط الأكبر في البرلمان الأوروبي، يوجد تعارض واختلافات جدية. فمن بين 6 من رؤساء حكومات من الاجتماعيين الديمقراطيين يبرز موقفا رئيسة وزراء الدنمارك، ميتا فريدركسن، ورئيس وزراء السويد، ستيفان لوفين، في مجموعة المتقشفين الرافضين مساعدة دول جنوب أوروبا المتضررة.
في معسكر تأييد سياسة المنح المالية في مواجهة المعترضين، يوجد رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز والبرتغالي أنطونيو كوستا، مدعومين بموقف رئيس وزراء مالطا، روبرت أبيلا، فيما رئيسة وزراء فنلندا سانا مارين، أقرب إلى موقف جارتيها في اسكندنافيا. في المحصّلة، هذا يعني أنّ موقف يسار الوسط داخل البرلمان الأوروبي منقسم على نفسه.
والمعضلة الأخرى التي تواجه البرلمان الأوروبي، إلى جانب الانقسامات الداخلية في الدول الوطنية، حول سياسة أوروبية موحدة لمواجهة النتائج الكارثية لوباء كورونا، أنّ كتلته الأكبر تؤكد بانقساماتها ما يقال اليوم عن "مواقف غير تضامنية". بل إنّ رؤساء حكومات يسار الوسط، كسانشيز في مدريد وكوستا في لشبونة وأبيلا في فاليتا، يقدرون حاجة دول جنوب القارة المتضررة مالياً من الأزمة بثلاثة أضعاف المبلغ المقترح من الجانبين الفرنسي والألماني، أي بنحو 1500 مليار يورو، وليس 500 كما هو مقترح.
وبالنسبة لكثيرين، يبدو غريباً توافق يسار الوسط في السويد والدنمارك وربما فنلندا لاحقاً، مع المحافظين في النمسا والليبراليين في هولندا وغيرهم ممن يكتمون مواقفهم، ما سينعكس أيضاً على مواقف ممثلي تلك الأحزاب في البرلمان الأوروبي وداخل الائتلافات الحاكمة، وقاعدتها البرلمانية وطنياً.
ويظهر الانقسام واضحاً في يسار الوسط على المستوى الأوروبي. فموقف نائب رئيس المفوضية الأوروبية، الهولندي فرانس تيمرمانز، مؤيد لمنحة برلين وباريس، وكذلك الأمر بالنسبة لزملائه في يسار الوسط النمساوي، الذين يطلقون على معارضة الدول الأربع "عصبة الأربع"، على الرغم من أنّ حزبين من معسكرهم، في استوكهولم وكوبنهاغن، في الحكم.
ما يبدو واضحاً، نتيجة هذه المواقف والسجالات الأوروبية الداخلية، أنّ مسألة التضامن بين دول الاتحاد الأوروبي، إضافة إلى غموض مستقبل مقترح برلين وباريس، بعد "فيتو" معسكرات سياسية متعارضة في القارة، أصبحت اليوم على المحكّ بشكل جدي. فهذه القضية تفوق، برأي مراقبين يتعاطون معها في الصحافة ووسائل الإعلام الأوروبية، أزمة اللاجئين في 2015، والسنوات التالية لها. هذه القضية تصيب بالدرجة الأولى عصب الالتفاف على فكرة وجود الاتحاد الأوروبي. بل إنّ البعض يرى أنّ مواقف أوروبا ستصب في نهاية المطاف في مصلحة معسكر اليمين المتشدد والشعبويين المتشككين في بقاء بلادهم في الاتحاد، ومن بينهم تلك الأحزاب الصاعدة في إيطاليا وإسبانيا.
ومن الناحيتَين الجيوسياسية والاقتصادية، يقرأ بعض الأوروبيين هذه الخلافات على أنها "ستشكل عامل إضعاف وعدم استقرار في الاتحاد الأوروبي، بل وكارثة لأوروبا في عالم يبدو أنه سائر إلى فترة ما بعد العولمة، ما يفترض أن يُوسع اعتمادنا المشترك (كأوروبيين) على السوق الموحدة والحدود المفتوحة"، وفقاً لافتتاحية صحيفة "إنفارماسيون" الدنماركية في 22 مايو/أيار الماضي بعنوان "كذبتنا المشتركة عن ذوبان الاتحاد الأوروبي في أزمة كورونا".
ويبدو أنّ مقولة ماكرون عن أنّ الاتحاد الأوروبي يقف على مفترق طرق بسبب تعقيدات أزمة جائحة كورونا، هي التي يعيشها بعض الحريصين على استمرار هذا الاتحاد والسوق المفتوحة، وسط تبدلات وتشققات تثير الانتباه في تبدل معسكرات التحالف، وتوسع الحديث عن عالم ما بعد العولمة.