في مستهل عام 2015، وبعد مرور أيام قليلة على الاحتفالات بأعياد الميلاد ورأس السنة الجديدة، لم يكن الفرنسيون يتوقعون أن يلعلع رصاص الإرهاب في قلب العاصمة باريس، في أجواء أمنية مخيفة. وقد استفاقت العاصمة صبيحة 7 يناير على وقع هجوم دموي، قام به الأخوان شريف وسعيد كواشي، ضد طاقم صحيفة "شارلي إيبدو" الساخرة، واقتحما مقر الصحيفة وقتلا 12 شخصاً، من بينهم أربعة من أبرز رساميها.
وفي الوقت الذي كان فيه الفرنسيون يحبسون أنفاسهم أمام شاشات التلفزيون، التي كانت تنقل وقائع مطاردة الأخوين كواشي قام إرهابي آخر، على صلة وثيقة بهما ويدعى حامدي كوليبالي، بقتل شرطية واقتحام متجر يهودي وقتل خمسة أشخاص. وأثارت هذه الاعتداءات موجة هلع غير مسبوقة في الشارع الفرنسي، وخرج ملايين الفرنسيين في تظاهرات عارمة دفاعاً عن حرية التعبير، رافعين شعار "كلنا شارلي".
وفي 11 يناير، وفي سابقة هي الأولى من نوعها، شارك 41 رئيس دولة في تظاهرة مليونية ضد الإرهاب في باريس. وانشغل الرأي العام بنقاشٍ ساخن حول مكانة الإسلام في فرنسا، كما وجدت الجاليات الإسلامية والعربية نفسها مجدداً في قفص الاتهام، لكون منفّذي اعتداءات يناير، برروا هجماتهم بذريعة "الدفاع عن الإسلام ومعاقبة المجلة الساخرة على نشرها رسوماً كاريكاتورية مسيئة للنبي محمد".
ومباشرة بعد هذه الاعتداءات عززت السلطات استراتيجيتها الأمنية ضد الإرهاب، وأطلقت الدرجة القصوى من عملية "فيجي بيرات" الخاصة بحماية التراب الفرنسي من خطر العمليات الإرهابية، وجنّدت حوالي 30 ألف شرطي وجندي لمهمة حراسة المنشآت الحساسة والمباني الحكومية، والقيام بدوريات في المطارات ومحطات القطارات والشوارع الرئيسية.
بموازاة ذلك، أقرّت حكومة رئيس الوزراء مانويل فالس، قانوناً جديداً للاستخبارات، اشتمل على حزمة إجراءات تُشرّع اللجوء إلى تقنيات المراقبة المختلفة، من تنصّت وتصوير وتجسس على محتوى الاتصالات عبر الإنترنت، وشبكات التواصل الاجتماعي.
اقرأ أيضاً: أخطر 5 اعتداءات على المسلمين في الغرب عام 2015
وعلى الرغم من حالة الاستنفار الأمني، قام مواطن فرنسي من أصول جزائرية لجهة الأب ومغربية لجهة الأم، يدعى ياسين الصالحي، بهجوم ضد معمل للبتروكيماويات في ضواحي مدينة غرونوبل في 26 يونيو/حزيران، بعد أن قطع رأس صاحب الشركة التي يعمل فيها. أُلقي القبض على الصالحي، قبل أن ينتحر في سجن فلوري ـ ميروجي في 22 ديسمبر/كانون الأول.
مع ذلك، فإنه كلما عززت السلطات من إجراءاتها الأمنية، تجد نفسها عاجزة عن استباق المحاولات الإرهابية، مثلما حدث مع المغربي أيوب الخزاني، الذي حاول القيام باعتداء على متن قطار تاليس السريع، الرابط بين أمستردام وباريس في 21 أغسطس/آب، غير أن تدخل راكبين أميركيين، حال دون ارتكابه مجزرة بسلاحه الرشاش.
وعلى الرغم من حالة الاستنفار الأمني القصوى، واقتناع كبار المسؤولين الأمنيين، بأن "فرنسا مهددة بعمل إرهابي نوعي وشيك"، وقعت الكارثة وتمكنت مجموعة من الإرهابيين من تنفيذ أضخم وأسوأ اعتداء إرهابي في تاريخ فرنسا الحديث، تجاوز بفظاعته وبعده الرمزي اعتداءات يناير بكثير.
مساء الجمعة 13 نوفمبر، وبينما كان الرئيس فرانسوا هولاند، يتابع من المنصة الشرفية في ملعب "ستاد دو فرانس" وقائع مباراة منتخبي فرنسا وألمانيا في كرة القدم، قامت مجموعة انتحارية منظمة ومدججة بالأسلحة الرشاشة والأحزمة الناسفة بتنفيذ مجزرة كبيرة خلال ساعة واحدة. وانتقلت بسهولة محيرة في شوارع العاصمة لتضرب المقاهي والحانات ومسرح "باتاكلان"، وأيضاً محيط ملعب "ستاد دو فرانس" قبل أن يقوم أفرادها بتفجير أنفسهم.
وأسفرت الاعتداءات عن مقتل 130 شخصاً من بينهم 90 في "باتاكلان" وجرح حوالي 300 آخرين. وظهر هولاند على شاشات التلفزيون وهو يعلن بصوت متهدج أن "فرنسا هوجمت". وبدت على الفرنسيين ملامح الصدمة والذهول من هذه الاعتداءات غير المسبوقة، خصوصاً أنه إذا كانت اعتداءات يناير قد استهدفت صحافيين ورسامين بذريعة الرسوم المسيئة للنبي محمد، فإن اعتداءات الجمعة السوداء كانت عشوائية، واستهدفت أناساً عاديين ساقتهم الصدفة إلى حتفهم.
وانعكست الصدمة على طريقة عيش الفرنسيين، الذين غيّروا فجأة عاداتهم اليومية، وخلال أسابيع طويلة تفادوا الخروج إلا للضرورة، فبدت الشوارع خالية ومراكز التسوق مهجورة وتم إلغاء العديد من الفعاليات الفنية والرياضية.
كما هجر السياح الأجانب العاصمة باريس، وتم تسجيل خسائر كبيرة في القطاعات المرتبطة بالسياحة، تحديداً الفنادق والمطاعم ومراكز التسوق. وأضرّت الاعتداءات كثيراً بالجاليات العربية والإسلامية، التي انزوت هي الأخرى في الهامش، من فرط الصدمة، بعد أن أضحت موضوع انتقادات واسعة في وسائل الإعلام، وهدفاً لهجوم غير مسبوق من الطبقة السياسية بيمينها ويسارها.
حتى إن عقد لسان الكثير من الشخصيات السياسية انحلّت، وباتت تُشكّك في توافق الإسلام مع مبادئ الجمهورية الفرنسية، بعد أن تبين أن منفّذي الاعتداءات الإرهابية كلهم فرنسيون، وُلدوا وتربوا في الضواحي الفرنسية، وتبنّوا "الأفكار الجهادية" أخيراً. وبدت الاعتداءات وكأنها هدية غير منتظرة لليمين العنصري المتمثل في حزب "الجبهة الوطنية"، الذي بات خطابه الهجومي ضد المهاجرين والمسلمين يلقى رواجاً كبيراً في شرائح واسعة من المجتمع الفرنسي، وتبيّن ذلك في انتخابات مجالس المناطق الأخيرة (6 و13 ديسمبر)، التي حصد فيها أصوات حوالي سبعة ملايين ناخب، في اختراق غير مسبوق للمشهد السياسي الفرنسي.
وشكلت اعتداءات 13 نوفمبر لحظة مفصلية على المستوى السياسي أيضاً، إذ وضع بعدها مباشرة هولاند استراتيجية جديدة، بشقّين داخلي وخارجي، تحت شعار "الحرب على الإرهاب". وتمّ إعلان حالة الطوارئ لمدة ثلاثة أشهر إضافية، لتمكين الجيش والأجهزة الأمنية من القيام بكل التدابير الممكنة لتعقب الإرهابيين ومحاربة "التطرف الجهادي" من دون اللجوء إلى القضاء. كما أعلن هولاند سلسلة من التدابير المتشددة سيتم إقرارها قريباً، وأبرزها تجريد المتهمين بضلوعهم في قضايا الإرهاب من الجنسية الفرنسية، وهذه المرة ليس فقط من الفرنسيين الذين يحملون جنسية أخرى بل حتى من الفرنسيين الذين ولدوا فرنسيين من دون امتلاكهم جنسية أخرى.
كما اتخذت الحكومة الفرنسية حزمة من الإجراءات هدفها محاربة التطرف، وقررت فتح عدة مراكز اعتقال خاصة بـ"الجهاديين" العائدين من مناطق القتال في سورية والعراق والمتطرفين المتشبعين بـ"الجهاد". وتم وضع خطة لمحاربة التطرف في أماكن العمل ورصد المتطرفين، الذين يشتغلون في مواقع حساسة مثل المطارات والموانئ والمواصلات العامة.
وقامت السلطات بعمليات دهم استهدفت المساجد والجمعيات الإسلامية، وتم إغلاق وحلّ بعضها للاشتباه في كونها بيئة حاضنة لـ"الفكر الجهادي". ومنذ البدء بالعمل بـ"قانون الطوارئ"، قامت السلطات بـ 2700 عملية دهم وتفتيش، وأخضعت 360 شخصاً للإقامة الجبرية، ووضعت 287 شخصاً رهن الاعتقال الاحتياطي، وأودعت 34 شخصاً في السجون، بتهمة "التورّط في أعمال إرهابية"، وحجزت 431 قطعة سلاح من بينها 41 رشاشاً حربياً. وتميز أداء الأجهزة الأمنية بتشدد كبير وتخللته انتهاكات عديدة، وتعالت بعض الأصوات الحقوقية والسياسية للتنديد بهذه الخروقات، واعتبرتها "انتهاكاً للنظام الديمقراطي والمواثيق الدولية الخاصة بحقوق الإنسان".
وتمخّضت اعتداءات نوفمبر أيضاً عن تحول جوهري في السياسة الخارجية، فقد أعلن هولاند حرباً شاملة على تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، الذي تبنّى اعتداءات نوفمبر. وقامت فرنسا بتكثيف غاراتها الجوية على معاقل التنظيم في سورية والعراق، وأشركت حاملة الطائرات الضخمة "شارل ديغول" في المعركة قبالة الساحل السوري.
ودعا هولاند إلى تشكيل ائتلاف دولي موسع لتدمير التنظيم، وتمكن من ضمان مساندة عسكرية من الاتحاد الأوروبي بعد تفعيل البند 42 ـ 7 لميثاق الاتحاد الأوروبي الذي يدعو لتضامن الدول الأعضاء في الاتحاد مع أي بلد عضو يتعرض لهجوم إرهابي.
ولكن على الرغم من الجهود الدبلوماسية المكثفة وزيارتين للولايات المتحدة وروسيا، التقى خلالهما الرئيسين الأميركي باراك أوباما، والروسي فلاديمير بوتين، إلا أن مساعيه باءت بالفشل. وبدا العجز الفرنسي واضحاً في الجمع بين الولايات المتحدة وروسيا في ائتلاف موحّد، بسبب التحفظات الأميركية. قبل أن يقع حادث إسقاط المقاتلة الروسية "سوخوي 24" من طرف سلاح الجو التركي، في 24 نوفمبر، ليقوّض آمال هولاند في تكوين الائتلاف الدولي الموسّع، الذي كان من المفترض أن تؤدي فيه تركيا دوراً أساسياً.
وحاول هولاند خلال قمة المناخ الدولية في باريس (30 نوفمبر ـ 12 ديسمبر)، التخفيف من حدة الأزمة الروسية التركية، لكن الخلافات بقيت قائمة، ولا تزال في انتظار تطبيق بنود الاتفاق الذي توصلت إليه الأمم المتحدة أخيراً بشأن المرحلة الانتقالية في سورية.
اقرأ أيضاً: المغرب يبحث عن متورطين في تنفيذ هجمات باريس