ذهب رئيس الوزراء المجري، فيكتور أوربان، أمس الأحد، إلى استفتاء شعبه حول اللاجئين بالأسئلة التالية: "هل تعلم أنه منذ أن بدأت موجة الهجرة، قتل 300 إنسان في أوروبا بسبب هجمات إرهابية؟ وهل تعلم بأنه منذ أزمة الهجرة ازدادت حالات التحرش بالنساء بشكل كبير؟ وهل تعلم أنه من ليبيا لوحدها سيصل أكثر من مليون مهاجر إلى أوروبا"...؟
أسئلة أوربان وجدت رداً هزلياً من حزب سياسي هزلي محلي في بلاده، اسمه حزب "الكلب ذو الذيلين" (بالمجرية: Magyar Kétfarkú Kutya Párt; MKKP، تأسس عام 2006). هذا الحزب لجأ إلى حملة "غرافيتي" وملصقات تعبر عن مستوى ما وصل إليه التراشق السياسي في البلاد. سأل الحزب المجريين قبل الاستفتاء: "هل تعلم أن متوسط رؤية المجريين لأجسام فضائية أكثر من رؤيته لمهاجر في كل حياته؟ وهل تعلم أن هناك حرباً في سورية؟ وهل تعلم أن مليون إنسان من المجر يودون العيش في بلد أوروبي آخر"؟
يثير فيكتور أوربان الكثير من المخاوف في المؤسسات الأوروبية. فهو القيادي الأوروبي الأقدم في منصبه، بعد المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، ولم يعتد الأوروبيون على شعار "للأبد... للأبد"، أو شعار "فلان أو نحرق البلد". بكل بساطة، إن ذلك الجانب من وجود زعيم، منذ 1998 وهو يتقلد مناصب وينتقل من فكر يمين الوسط إلى القومي المحافظ ويحتل رئاسة الوزراء لمرتين في تاريخ المجر الحديث، بعد الانتقال من المعسكر الاشتراكي، ليس أمراً مستساغاً في نظر الصحف أو في نظر السياسيين الأوروبيين. ويصبح الوضع مقلقاً أكثر فأكثر خصوصاً حين يقراً من زاوية تحالفات الرجل شرقاً والتقارب بينه وبين موسكو، ولا يتردد البعض، ولو تندراً، بتسميته "الديكتاتور".
الاهتمام الإعلامي والدبلوماسي الأوروبي بالاستفتاء المجري أتى على خلفية الانسحاب البريطاني، إثر استفتاء شعبي صيف هذا العام، ولأن فيكتور أوربان يعتقد بأنه يقود ما يسميه أنصاره "ثورة ثقافية" في الاتحاد الأوروبي، بل ويعتبر نفسه يسدي "خدمة لأوروبا لوقف حضور المهاجرين واللاجئين". لكن لأوربان أيضاً موقفاً شبه شخصي من المستشارة ميركل، وسط تنامي حدة الموقف الشخصي منه ومن أفكاره في بروكسل. وعبّر عن ذلك بشكل جلي وزير خارجية لوكسمبورغ، يان أسيبلورن، حين طرح بأنه "ينبغي على الاتحاد طرد المجر من بين صفوفه إن واصلت سوء معاملة اللاجئين". والتصريح الأخير لا تحبذه بروكسل خشية من تسريع وتيرة تفكك الاتحاد.
ويخشى الاتحاد الأوروبي من خطوات أوربان في توجيه صفعة له، وإن كانت براغماتية الرجل لا تروق للكثيرين، في تحويل الشعارات القومية إلى واقع مرير يشجع غير المجريين من المترددين تجاه الاتحاد. فالأمر لا يتعلق باللاجئين وحسب، بل برسائل أخرى وصلت قبل الاستفتاء. والنهج القومي المحافظ الذي قاده أوربان في المجر، وإطلالته في دول أخرى، حيث ستجري استفتاءات حول عدد من القضايا والتحفظات، يهدفان إلى نزع مركزية القرار عن بروكسل، وبالتالي التركيز على ما يسمونه "قرارات السيادة الوطنية".
ويمكن سماع صدى الصوت "الأورباني" في بولندا وسلوفاكيا وجمهورية التشيك. بمعنى آخر، يخشى الأوروبيون "القدامى" في الاتحاد من الدول الجديدة وتحالفات أخرى تفرض شروطاً بخطابها وسياستها الصارمة. وكل الكلام القاسي الذي يدلي به أوربان عن الاتحاد، وغيره من قادة "الكتلة الشرقية" السابقة، لا يعني على الإطلاق الخروج منه، فذلك أمر لا يستطيع أحد منهم المخاطرة به. ولدى أوربان، وفقاً لعارفيه في بودابست، "رغبة شخصية بأن يكون بمستوى ميركل في التأثير. ومن خلال هذا التشدد يظن الرجل بأنه حقق ذلك، بعدما أثار الكثير من اللغط والجدل حوله باعتباره منقذا لأوروبا، فهكذا يظن نفسه"، بحسب قولهم.
وفي بودابست أيضاً، يقول العارفون بطبيعة المجريين إنه "لو أراد الاتحاد الأوروبي قلب الطاولة على رأس أوربان سيفعلونها بكل بساطة عبر المال والاستثمارات".
آمال خارجية وداخلية
وما يأمل به أوربان يتمثل في انعكاسات الاستفتاء الشعبي أمس على الصعيدين الخارجي والداخلي. خارجياً، سيستطيع الرجل القول للاتحاد الأوروبي إن "شعبي يرفض قراراتكم". ومما لا شك فيه، كما هو حاصل اليوم، فإن ساسة مخضرمين في أوروبا لا يروق لهم هذا السياسي ويعتبرونه "مدمراً لقيم العمل المشترك". بل إن ساسة ومراقبين غربيين ينظرون إليه بوصفه "انتهازياً كان يصرخ أيام الحكم الاشتراكي للدخول إلى الاتحاد، بينما اليوم يقدم نفسه كصقر في السياسة الأوروبية".
للرجل أفكار شخصية كثيرة، وبعضها يرتبط بتاريخ قديم يؤمن به ومفاده أن "المجر تقف سداً بوجه العثمانيين". وهو يظن نفسه اليوم بحق أنه "يحمي أوروبا من زحف المسلمين بمنع اللاجئين من الإقامة". لكن أيضاً في السياسة الخارجية، ووفقا لأستاذ جامعي عربي مقيم ويدرّس في المجر، فإن لأوربان "تحالفاته الروسية وهو يرفض العقوبات على موسكو. وبالتأكيد هذا أمر مقلق لبروكسل، ليس للسبب عينه بل لمستقبل العمل المشترك تحديداً". ويضيف المتحدث نفسه أن أوربان يؤمن بأنه سيكون هناك صدام حقيقي بين القادمين الجدد (اللاجئين) والثقافة الأوروبية، وهو يرى نفسه بالتالي منقذ أوروبا". في هذا الصدد، يرى خبراء أن كابوس المجر وبولندا، وبدرجات متفاوتة بقية دول شرق أوروبا، يتمثل بـ"الانقلاب على الليبرالية" وتبني نزعة قومية تصل حد الشعبوية.
وفي سبتمبر/أيلول الماضي، أظهر أوربان أنه يمتلك نوعاً من مركزية القرار. فخلال دقائق أصدر قراراً بإغلاق الحدود ووقف المواصلات لمنع اللاجئين من التحرك. والالتزام الصارم بقراره، إضافة إلى الضخ الإعلامي الشبيه بما حدث قبيل الاستفتاء، أزعج بعض معارضيه، لكنه كشف عن عجزهم الكبير في وجه صعود نبرة "الوطنية المجرية".
ليس الرجل "كارهاً للأجانب" بالمعنى العقائدي. وتشير استثمارات بعض رؤوس الأموال، حتى العربية، ومنها فلسطينية على نهر الدانوب، إلى أي مدى يرى الرجل فكرة انفتاحه القائمة على جذب الأموال من أي كان، كأي رأسمالي. وبعض تلك الأموال تأتي بأشكال مختلفة، تحت مسميات "طالب فلسطيني درس في المجر وأصبح رجل أعمال عاد ليستثمر في بودابست". وبحسب ما يسر العارفين بخبايا أمور "تحالف المال والسياسة"، لم يجد أوربان حرجاً في تعديل قانون يسمح لهذا "المستثمر" بشراء فندق على نهر الدانوب كان يمنع سابقاً بيعه لأجانب.
أوربان، في الحالة المجرية والأوروبية، ليس فقط تعبيراً فردياً عن انعطافات أوروبية تجري بتسارع بعدما كانت بطيئة. فاليوم لم يعد من مشكلة لدى هؤلاء، من أمثال أوربان، أن يتحالفوا مع أي كان في سبيل تعزيز مواقعهم وتحقيق أهدافهم، التي يمكن أن تكون تحالفات عابرة للحدود مستقبلاً.